خلق اللهُ عز وجل آدمَ عليه السلام وجعله خليفة في الأرض، وقد استُدل بذلك على وجوب تنصيب الإمام(1)، فضلًا عما ورد في شريعة الإسلام خاصة في وجوب ذلك وأولويته، فالخلافة جامعة المسلمين، وتمثلٌّ ظاهرٌ لوجودهم واعتبار كلمتهم بين الأمم، ولم يشغر الزمان عن خليفة منذ البعثة النبوية سوى في هذه المائة عام الأخيرة(2)، فسقوط الخلافة -الذي تأتي مئويته في هذه الأيام- حدث جلل أزرى بالمسلمين إلى وقتنا هذا، وفي هذا المقال نستعرض الصدمة الأولى التي تلقاها العالم الإسلامي بعد إعلان سقوط الخلافة العثمانية في ٣ مارس 1924م في أقوال بعض معاصريها.
وحيد الدين.. آخر السلاطين العثمانيين
سيطرت جمعية الاتحاد والترقي على مقاليد حكم تركيا، فخلعوا آخر سلطان وخليفة فعليّ عبدالحميد الثاني في 27 أبريل 1909م، ثم نصبوا مكانه محمد الخامس رشاد الذي حكم حُكمًا صوريًا إلى حين وفاته في 3 يوليو 1918م، ثم خلفه أخوه محمد السادس وحيد الدين الذي ألغيت السلطنة بخلعه في 1 نوفمبر 1922م واضطر بعدها لترك تركيا، وانتخب البرلمان التركي في 19 نوفمبر من نفس العام عبدالمجيد الثاني خليفةً مجردًا عن السلطنة، الذي بقي كذلك حتى إلغاء الخلافة هي الأخرى بعدها بأقل من عام ونصف عام.
وقد تفاعل السلطان الأخير وحيد الدين في منفاه مع إلغاء الخلافة، فنشر بعدها بأيام بياناً يذكر فيه أنه هاجر إلى حيث يستطيع الدفاع عن مقدسات الإسلام، ويبين ما فعل الكماليون؛ إذ أباحوا تزوج المسلمات بالنصارى، وحرموا تعدد الزوجات، وأخرجوا نساء المسلمين متبرجات إلى الرقص والبارات، وأخرجوا تعليم القرآن والدين من برامج الدراسة، ومنعوا الحج إلى البيت الحرام، وأحلوا الحروف اللاتينية محل الحروف العربية، وختمه بقوله: «فقسماً بعظمة الله وعلو عزته تعالى، يا ورثة سيد الأنبياء، لقد دقت ساعة الوعظ والإيقاظ على حركة الكماليين، وإلا فإن دين الإسلام وشمس الشريعة والتوحيد لفي غروب قريب من سماء الأناضول»(3).
علماء الأزهر
وقد دخل عموم المسلمين في حالة من التيه عقب إلغاء الخلافة، وكان أولَ ما أخرجهم من ذاك بعض الشيء بيانٌ من الأزهر مذيل بإمضاء 16 عالماً، وذلك بعد إلغاء الخلافة بـ4 أيام فقط؛ يقررون فيه بطلان ما صنعه الكماليون من عزل الخليفة عبدالمجيد؛ ويقررون أن «بيعته صحيحة شرعاً في عنق كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر»، ودعا البيانُ المسلمين للإسراع في عقد مؤتمر يقرر ما يراه في أمر الخلافة من الطريق الشرعي ويحذرهم من تسرب الخلاف الذي يؤخر الإسلام ويوهنه(4).
وفي اليوم التالي مباشرة، نشر وكيل الأزهر الشيخ محمد حسنين مقالًا قال فيه: «فإذا لم يكن الخليفة قد تنحى عن منصب الخلافة، بل لا يزال متمسكاً به؛ فإن بيعته لا تزال في الأعناق، وإن لا؛ يكون قد اعتزل بنفسه الخلافة ورأى عدم كفايته لها، فتبرأ ذمة المسلمين من عهدته، وتنحل بيعته من أعناقهم، ويجب النظر في إسناد الخلافة لمن هو أهلها وأحق بها، فإن الاجتماع منعقد على وجوب نصب الخليفة للمسلمين، وقد ورد في صحيح مسلم: «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية».. فيجب على العلماء وأهل الحل والعقد أن يبادروا إلى النظر في بيعة خليفة للمسلمين، حتى يخرجوا من عهدة هذا المنصب الخطير»(5).
وفي أثناء ذلك، نشر الشيخ محمد شاكر مقالًا قال في صدره مذهولًا: «خليفة يخلع، وخلافة تلغى، وأموال تصادر، وأوقاف تضم إلى أملاك الدولة، وتعليم ديني يمحى، ومحاكم شرعية تغلق، وأسرة عثمانية تطرد من آفاق البلاد، وتحرم حتى من جنسيتها التركية، فما هذه العاصفة الهوجاء؟ عاصفة الجنون التي تهب على العالم في مشارق الأرض ومغاربها»، ثم قال عن نظام الخلافة: «ما كانت الخلافة يومًا ما نظامًا قوميًّا تتقاذفه أيدي المتسلطين في الجمعيات الوطنية حتى يتسنى لزعماء الجمهورية التركية أن يقرروا إلغاءه، إنما الخلافة نظام ديني عام لا يحل لرجل يؤمن بالله ورسوله أن يتخلى عن الاندماج في دائرته المرنة»(6).
طبقة المثقفين
ولم يفُت الكُتُّاب مشاركة أمتهم ما حل بها، ومنهم أمين بك الرافعي؛ الذي نشر خطابًا هاجم فيه ما صنعه الكماليون، وختمه بقوله للعلماء: «وبهذه المناسبة لا نرى بُدًّا من توجيه نظر علمائنا الأفاضل إلى ضرورة قيامهم بواجبهم الديني في هذه الحادثة الخطيرة، فقد سبق لهم أن أعلنوا بيعتهم لجلالة الخليفة، ولما كانت البيعة قائمة بالرغم من قرار أولئك الملحدين الخارجين على الإسلام؛ فيجب على العلماء أن يعلنوا ذلك في اجتماع كبير يعقدونه، ويبرقون بقراراته إلى حكومة أنقرة؛ لتعلم أن العالم الإسلامي ساخط على أعمالها المنكرة، كما نرجو من علمائنا أن يدعوا جلالة الخليفة للحضور إلى مصر ليعيش وأسرته في بلد إسلامي، ويكون متصلاً بالمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ لأن فكرة إبعاده إلى سويسرا لا يقصد منها سوى الحيلولة بينه وبين المسلمين، وبالجملة؛ فإن على علماء المسلمين في الظرف العصيب الذي يجتازه الإسلام الآن فروضًا مقدمة، يجب عليهم أن يقوموا بها بلا توان ولا تردد لدرء الخطر الذي يتهدد الإسلام والمسلمين»(7).
طبقة الشعراء
ومنهم أحمد شوقي، الذي كتب قصيدة ملؤها الأسى، قال في أولها:
عادَت أَغاني العُرسِ رَجعَ نُواحِ ** وَنُعيتِ بَينَ مَعالِمِ الأَفراحِ
كُفِّنتِ في لَيلِ الزَفافِ بِثَوبِهِ ** وَدُفِنتِ عِندَ تَبَلُّجِ الإِصباحِ
شُيِّعتِ مِن هَلَعٍ بِعَبرَةِ ضاحِكٍ ** في كُلِّ ناحِيَةٍ وَسَكرَةِ صاحِ
ضَجَّت عَلَيكِ مَآذِنٌ وَمَنابِرٌ ** وَبَكَت عَلَيكَ مَمالِكٌ وَنَواحِ
الهِندُ والِهَةٌ وَمِصرُ حَزينَةٌ ** تَبكي عَلَيكِ بِمَدمَعٍ سَحّاحِ
وَالشامُ تَسأَلُ وَالعِراقُ وَفارِسٌ ** أَمَحا مِنَ الأَرضِ الخِلافَةَ ماحِ
وهاجم فيها الكماليين فقال:
بَكَتِ الصَلاةُ وَتِلكَ فِتنَةُ عابِثٍ ** بِالشَرعِ عِربيدِ القَضاءِ وَقاحِ
أَفتى خُزَعبِلَةً وَقالَ ضَلالَةً ** وَأَتى بِكُفرٍ في البِلادِ بَواحِ(8)
وشاركه ذلك الشاعر أحمد محرم(9)، ومحمد عبدالمطلب(10)، وغيرهما.
وهذه الأمثلة غيض من فيض امتلأت بها الصحف وأوراق الكتب؛ صارخة من هول إلغاء الخلافة، مستشرفة العاقبة التي وصلت إليها الأمة الآن، فهل آن الأوان لتسترجع الأمجاد، أم ليس بعد؟!
________________________
(1) تفسير القرطبي ج1، ص264.
(2) يقول أهل العلم: إن للخلافة مفهومين؛ حقيقية باعتبار الفضل، وهي ما كان عليه الخلفاء الراشدون، ومنصب باعتبار إقامة الدين في الناس وإن كانت في ملك جبري؛ وهي ما سارت عليه الدول التالية للخلافة الراشدة.
(3) «الأهرام» عدد 25 مارس 192م.
(4) «الأهرام» عدد 6 مارس 1924م، نشر بعنوان «خلع الخليفة غير شرعي».
(5) الأهرام عدد 7 مارس 1924م، نشر بعنوان «الخلافة الإسلامية».
(6) نشر في المقطم، وأثبتها محمد رشيد رضا في مجلة «المنار»، ج25، ص273.
(7) مجلة «الأهرام» عدد 20 أبريل 1924م.
(8) ديوان شوقي ج1، ص114.
(9) ديوان أحمد محرم، ج1، ص601.
(10) ديوان عبدالمطلب، ص253.