ماذا يحدث في “مثلث الموت” بمنطقة الساحل الأفريقي؟ مئات القتلى لجنود وسكان محليين وإرهابيين خلال أشهر معدودة، ومئات الآلاف ينزحون من مناطقهم، وجيوش تُحشد وقمم دولية تعقد، لكن منطقة “الحدود الثلاثة” بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو لم تسلط عليها الأضواء بالشكل الذي يعكس حجم هذه المأساة ومستوى التهديد الأمني في المنطقة.
فخلال الأشهر الخمسة الأخيرة، ارتكبت جماعات مسلحة بينها تنظيم “داعش” الإرهابي بمنطقة الصحراء الكبرى، وتحالف “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”، عدة مجازر راح ضحيتها عشرات الجنود في مالي والنيجر وبوركينافاسو، ناهيك عن جنود فرنسيين وعناصر من القبعات الزرقاء الأممية.
وتشكل تحالف “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”، في مارس 2017، ويضم كلاً من “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب”، وكتيبة “المرابطين” جناح مختار بلمختار، وجماعة “أنصار الدين” (أغلب عناصرها من الطوارق شمالي مالي) بزعامة إياد آغ غالي، الذي يقود التحالف حالياً، إضافة إلى “جبهة تحرير ماسينا” (أغلب عناصرها من قبيلة الفلاني وسط مالي).
وكان يناير 2020، الأكثر دموية بالنسبة لجيشي النيجر ومالي على وجه الخصوص؛ حيث قُتل في التاسع من هذا الشهر 89 جندياً من النيجر قرب الحدود المالية على يد عناصر يعتقد أنها تابعة لـ”داعش” الصحراء.
وفي 26 من ذات الشهر، قتل 20 جندياً مالياً في هجوم يُعتقد أنه لـ”جبهة تحرير ماسينا”، التي انضمت لتحالف “النصرة”، على ثكنة في وسط البلاد، واستولوا على أسلحتهم بل وسيطروا على بلدة سوكولو، بالقرب من الحدود الموريتانية في 4 فبراير، بعد أن سبق وحررتها القوات الحكومية في وقت سابق.
وفي 12 ديسمبر 2019، قتل تنظيم “داعش” 70 جندياً من النيجر في هجوم على موقع عسكري بمنطقة نائية شمال غربي البلاد، في منطقة “الحدود الثلاثة”.
كما قتل 53 جندياً مالياً في هجوم مسلح على مدينة إنديلمان، شمالي مالي، في نوفمبر 2019، وفي ذات الشهر قتل 13 جندياً من فرنسا في اصطدام مروحيتين بمالي، “كانوا يشاركون في عملية عسكرية ضد متطرفين”، حسب الرئاسة الفرنسية.
وما بين 30 سبتمبر و1 أكتوبر 2019، قتل 40 جندياً مالياً في هجومين منفصلين بالقرب من الحدود المالية مع بوركينا فاسو.
ولم تسلم حتى القبعات الزرق من هجمات الإرهابيين؛ حيث أصيب 18 عنصراً من قوات “مينوسما” (بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي) في كمين بمنطقة تساليت شمالي مالي.
بوركينا فاسو، لم تكن استثناء أيضاً؛ حيث قتل 6 جنود في انفجار عبوة ناسفة لدى مرور مركبتهم بمنطقة أربيندا (شمال)، في يناير الماضي، وقتل 18 عسكريين آخرين في هجومين منفصلين بإقليم (سوم)، نهاية ديسمبر 2019، وقتل في أحد هذين الهجومين 35 مدنياً و80 إرهابياً.
كما قَتل مسلحون 39 مدنياً في إقليم سومي أيضاً في 26 يناير، وفي مطلع فبراير قُتل 36 مدنياً في منطقة سانماتنجا، شمالي بوركينا فاسو.
ومنذ عام 2015، قتل أكثر من 700 شخص في بوركينا فاسو وحدها، وخلال 12 شهراً الأخيرة، نزح 700 ألف شخص “بسبب الهجمات المميتة التي تعرضت لها قرى في البلاد”، حسب الأمم المتحدة.
عمليات مضادة
ومع تزايد الهجمات الإرهابية في منطقة “الحدود الثلاثة”، كثفت مجموعة دول الساحل الخمس (موريتانيا ومالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد)، وبدعم محوري لفرنسا من هجماتها على الجماعات الإرهابية في المنطقة، خاصة مطلع عام 2020.
وأعلنت قيادة الأركان الفرنسية تحييدها لعشرات الإرهابيين في غارات لطائرات ميراج 2000 وريبر بدون طيار؛ منهم 30 عنصرا يومي 6 و7 فبراير، وفي الفترة ما بين 9 و17 فبراير، حيدت 50 مسلحاً في محيط مدينة موبتي وسط مالي.
كما تم تحييد 20 إرهابياً في الفترة ما بين 19 و24 فبراير بمنطقة الحدود الثلاثة، بالتزامن مع انطلاق قمة مجموعة دول الساحل الخمس، التي انعقدت في 25 فبراير بالعاصمة الموريتانية نواكشوط بمشاركة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
كما ذكرت وسائل إعلام فرنسية أنه تم تحييد 80 عنصراً من الجماعات الإرهابية في “الحدود الثلاثة” في يناير الماضي.
ولم تؤكد القوات الفرنسية إعلان النيجر تحييدها في عملية مشتركة معها، 120 إرهابياً في منطقة تيلابيري، القريبة من الحدود مع مالي وبوركينا فاسو، في 20 فبراير الماضي.
لكن عمليات “مكافحة الإرهاب” في الحدود الثلاثة، لم تسلم من وقوع انتهاكات وأعمال انتقامية؛ حيث قُتل 31 مدنياً من قبائل الفلاني، التي يتحدر منها المئات من مسلحي جبهة تحرير ماسينا، دون أن يُكشف عن المسؤول عن هذه المجزرة، التي سبقها في مارس 2019، مجزرة أضخم راح ضحيتها 160 فرداً من ذات القبيلة، وجهت فيها أصابع الاتهام لقبيلة أخرى منافسة.
وازداد الاستياء الشعبي من ممارسات الجنود الفرنسيين في المنطقة، خاصة أنه يُنظر إلى فرنسا كمستعمر قديم طامع في ثروات المنطقة.
وتسببت هذه النزاعات في مقتل نحو 4 آلاف شخص بمالي والنيجر وبوركينا فاسو خلال عام 2019؛ ما يعكس حجم التحديات الأمنية في المنطقة.
وهذا ما دفع فرنسا إلى زيادة تعدادها العسكري في المنطقة من 4500 جندي إلى 5100، كما قرر الاتحاد الأفريقي إرسال 3 آلاف عسكري إلى المنطقة لمواجهة تردي الأوضاع بها، فضلاً عن 12 ألفاً من القبعات الزرق المتواجدين في شمال مالي لحفظ الأمن، فضلاً عن مساعي فرنسية لإنشاء عملية جديدة تحت اسم “تاكوبا”، تضم قوات خاصة من نحو 10 دول أوروبية.
غير أن الولايات المتحدة، التي تملك قاعدتين جويتين لطائرات بدون طيار في النيجر، لا تبدي حماسة في التورط أكثر في عمليات عسكرية تتولى فرنسا قيادتها.
لكن كل هذه القوات قد لا تكون كافية في ظل إحساس قبائل المنطقة بالظلم والتهميش وهو ما يغذي التطرف؛ لذلك تم إعلان “التحالف من أجل الساحل”، خلال قمة مجموعة دول الساحل الخمس، الثلاثاء الماضي.
ويضم “التحالف من أجل الساحل”، كلاً من فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي وإسبانيا وهولندا وإيطاليا ومصرف التنمية الأفريقي، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والبنك الدولي، وبريطانيا ولوكسمبرج، إضافة إلى الولايات المتحدة والنرويج وفنلندا بصفة مراقب.
وقرر “التحالف من أجل الساحل” تمويل 600 مشروع بقيمة 9 مليارات يورو، حسب إعلام فرنسي.
وأعلن البنك الدولي، الثلاثاء الماضي، تخصيص دعم مالي يتراوح بين 6 إلى 7 مليارات دولار لدول مجموعة الساحل، من أجل تمكينها من مواجهة التحديات.
كما سبق أن تعهد المانحون في مؤتمر بروكسل، الذي عقد في فبراير 2018، بتقديم 414 مليون يورو لدعم دول الساحل.
ويبقى إيفاء المانحين بالتزاماتهم تجاه هذه الدول خطوة نحو تحقيق الاستقرار في هذه المنطقة المهمشة، إلا أن التحديات الأمنية أعقد من ذلك بكثير.