تعد الصكوك الإسلامية من أبرز منتجات الصناعة المالية الإسلامية، وقد أصبحت تلك الصكوك واقعاً فرض نفسه في الساحة المالية العالمية، حتى ولت العديد من المؤسسات الإسلامية وغير الإسلامية وجهتها إليها، لقدرتها على توفير الموارد التمويلية اللازمة للاستثمارات، فضلاً عن المواءمة بين المعضلات الثلاث: الربحية، والسيولة، والأمان من المخاطر.
ظهر الاهتمام بالصكوك الإسلامية واضحاً جلياً من خلال إطلاق مؤشرات «Index” للصكوك الإسلامية، وإصدار جملة من الأنظمة والتشريعات المنظِّمة للتصكيك وما يتعلق به في بعض الدول الإسلامية؛ فقد أطلقت “سيتي جروب” و”داو جونز” أول مؤشر عالمي للصكوك الإسلامية، وذلك خلال المنتدى المالي الإسلامي العالمي 2006م، كما أصدرت هيئة الأوراق المالية والسلع في الإمارات العربية المتحدة في العام 2005م لائحة “إدراج الصكوك الإسلامية”، وأصدرت هيئة السوق المالية بماليزيا في العام 2004م ضوابط طرح الصكوك الإسلامية (Guidelines On The offering of Islamic Securities).
وترجح وكالة “إس آند بي غلوبال للتصنيفات الائتمانية” ارتفاع حجم الإصدارات العالمية للصكوك إلى ما بين 140-155 مليار دولار أمريكي هذا العام، بفضل عودة الإصدارات في كل من ماليزيا وإندونيسيا، ودول مجلس التعاون الخليجي، مقارنةً مع انخفاض الإصدارات إلى 139.8 مليار دولار أمريكي في عام 2020م من 167.3 مليار دولار أمريكي في عام 2019م.
والملاحظ أن الصكوك الإسلامية المصدرة لم تقتصر على مؤسسات الأعمال فقط، بل امتدت لتشمل الحكومات من خلال إصدارها صكوكاً سيادية، فعلى سبيل المثال؛ قامت كل من ماليزيا والسودان بإصدار صكوك لتمويل الخزانة العامة، وتتجه مصر لذلك بعد إقرارها منذ أسابيع قانون الصكوك السيادية، ولم يقتصر إصدار الصكوك على الدول العربية والإسلامية فقط، بل امتد إلى بعض البلدان الغربية، فعلى سبيل المثال؛ قامت ولاية ساكسوني- أنهالت (Saxony Anhalt) الألمانية بإصدار أول صكوك إسلامية في بلد غير مسلم، كما صدر العديد من الصكوك الإسلامية لشركات متعددة في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية خلال السنوات الأخيرة، وبالمثل؛ أصدر البنك الدولي صكوكاً إسلامية مقومة بعملة محلية.
مفهوم الصكوك الإسلامية:
الصكوك لغة جمع صك، والصك: كتاب، وهو فارسي معرب، أصله جك، ومن معانيه وثيقة اعتراف بالمال المقبوض، أو وثيقة حق في ملك ونحوه، وكانت الأرزاق تسمى صكاكاً لأنها تخرج مكتوبة، والصك هو ورقة مالية.
وقد شهد واقعنا المعاصر ما يعرف بالصكوك الإسلامية أو صكوك الاستثمار تمييزاً لها عن الأسهم والسندات التي عرفتها المعايير الشرعية لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية بأنها: وثائق متساوية القيمة تمثل حصصاً شائعة في ملكية أعيان أو منافع أو خدمات أو في ملكية موجودات مشروع معين أو نشاط استثماري خاص وذلك بعد تحصيل قيمة الصكوك وقفل باب الاكتتاب وبدء استخدامها فيما أصدرت من أجله.
وعرفها مجمع الفقه الإسلامي الدولي في قراره بشأن سندات المقارضة بأنها: أداة استثمارية تقوم على تجزئة رأس المال إلى حصص متساوية، وذلك بإصدار صكوك مالية برأس المال على أساس وحدات متساوية القيمة، ومسجلة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصاً شائعة في رأس المال وما يتحول إليه بنسبة ملكية كل منهم فيه.
وعرفها مجلس الخدمات المالية الإسلامية بأنها: حق ملكية نسبة مئوية شائعة في موجودات عينية، أو مجموعة مختلطة من الموجودات، أو في موجودات مشروع محدد أو نشاط استثماري.
ويمكن القول: إن صكوك الاستثمار هي وثائق متساوية القيمة تمثل حصصاً شائعة في موجودات معينة ومباحة شرعاً، تصدر وفق صيغ التمويل الإسلامية، وعلى أساس المشاركة في الغنم والغرم، والالتزام بالضوابط والمقاصد الشرعية.
أهمية الصكوك الإسلامية:
تبرز أهمية الصكوك الإسلامية من خلال الآتي:
1- تنويع العمل الاستثماري الإسلامي من خلال تنوع إصدارات الصكوك المصدرة فعلاً، فضلاً عن مواءمتها بين المعضلات الأربع الربحية والسيولة والأمان من المخاطر والتنمية.
2- إتاحة الفرصة أمام البنوك المركزية في الدول الإسلامية لاستخدام الصكوك ضمن أطر السياسة النقدية وفقاً للمنظور الإسلامي بما يسهم في امتصاص السيولة، ومن ثم خفض معدلات التضخم، وإتاحة الفرصة أمام المؤسسات المالية الإسلامية لإدارة السيولة الفائضة لديها.
3- تمويل مشروعات البنية الأساسية والمرافق الحكومية، وتوفير التمويل اللازم للشركات والمؤسسات المالية بما يسهم في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
4- وسيلة فعالة لتنشيط وتدويل بورصات الأوراق المالية فضلاً عن إتاحة الفرصة لتفعيل سوق مالية إسلامية موحدة.
خصائص الصكوك الإسلامية:
تتمثل أهم خصائص الصكوك الإسلامية في الآتي:
1- متساوية القيمة:
تصدر الصكوك باسم مالكها أو لحاملها، بفئات متساوية القيمة لإثبات حق مالكها فيما تمثله من حقوق والتزامات مالية.
ويشبه الصك الاستثماري في ذلك السهم الذي يصدر بفئات متساوية، ويمثل حصة شائعة في صافي أصول الشركة المساهمة، كما أنه يلتقي في ذلك مع السندات التي تمثل ديوناً في ذمة مصدرها، وتصدر بفئات متساوية.
2- تمثل ملكية حصص شائعة في موجودات:
تمثل الصكوك حصة شائعة في ملكية موجودات مخصصة للاستثمار أعياناً أو منافع أو خدمات أو خليطاً منها ومن الحقوق المعنوية والديون والنقود، ولها دخل ولا تمثل ديناً في ذمة مصدرها لحاملها.
وكون الصكوك تمثل حصة شائعة في ملكية موجودات مخصصة للاستثمار هو من أهم ما يميزها عن السندات التقليدية التي تمثل قروضاً (مبالغ نقدية) يقدمها حملتها، فحامل الصك له ملكية متعلقة بحصة في الموجودات وليس في العائد فقط، وتتفق الصكوك مع الأسهم في هذه الخاصية.
وقد أثيرت ملكية حملة الصكوك للأصول في التطبيقات العملية من خلال الصكوك المدعومة بالأصول، والصكوك المبنية على الأصول.
والصكوك المدعومة بالأصول (Asset based securities) هي صكوك مدعومة بأصول مولدة للدخل ومدرة لتدفق نقدي مستقر، وينطوي توريقها على بيع حقيقي لأصل، وليس لحامليها الرجوع على منشئ الصكوك، فأصول الصكوك هي المصدر الوحيد لمدفوعات رأس المال والربح، ويتم اللجوء عند التعثر إلى الأصل وليس المنشئ.
ويتم تحديد مخاطر الائتمان لهذا النوع من الصكوك من خلال تقدير الجودة الائتمانية لهذه الأصول فقط، التي تعتمد على التدفق النقدي للأصل، وفي بعض الحالات قيمته المتوقعة عند الاستحقاق بافتراض حالات ومسارات مختلفة، وعموماً؛ لا يستطيع مستثمرو الصكوك وفق هذه الهيكلة وصياغتها القانونية من الوصول إلى صاحب الأصل (المنشئ)، ولكن يتم تجنيبهم في الوقت نفسه من مخاطره المالية، وتشتمل الصكوك المدعومة بالأصول على عناصر التوريق الأساسية التي تنص على فصل الخطر الائتماني للصكوك بشكل فعال عن خطر منشئ الأصل، والاقتصار فقط على الخطر الائتماني المرتبط بأداء الأصل.
أما الصكوك المبنية على الأصول (Asset Backed Securities)، فهي صكوك يكون فيها الأصل حاضراً لغرض الالتزام بالشريعة، وليس بهدف أن يكون مصدراً لمدفوعات الربح ورأس المال، فليس من الضروري أن يولد الأصل عائداً لحاملي الصكوك، ويتعهد فيها المنشئ بإعادة شراء الأصول من المصدر عند استحقاق الصكوك، أو عند وقوع حدث محدد مسبقاً بسعر يساوي المبلغ الأصلي لحجم التمويل.
وفي ظل هذا التعهد، تكون القيمة الحقيقية للأصل أو محفظة الأصول غير مؤثرة في قيمة الصكوك باعتبار أن مبلغ إعادة الشراء معلوم مسبقاً ويساوي مبلغ التمويل الأصلي.
وفي هذه الحالة، لا يتمتع حاملو هذا النوع من الصكوك بحقوق خاصة على الأصل، ولهذا عادة ما يتركز تقييم مخاطر ائتمان هذه الصكوك على الجهة التي تلتزم بإطفاء الصكوك وقدرتها على السداد إما من مصادر داخلية أو عن طريق إعادة التمويل، وهذه الجهة عادة هي المصدر.
وقد تكون هذه الجهة في بعض الحالات المنشئ، أو الضامن، أو المستأجر من خلال اتفاق تعهد بالشراء، وفي هذه الحالة، يكون تحليل أو تقدير الجودة الائتمانية للأصل أمراً ثانوياً، حيث يكون العامل المؤثر في الحكم على الجودة الائتمانية للصك وتصنيفه هو الجدارة الائتمانية للمصدر.
وهذه الصكوك بهذه الصورة تحاكي الممارسات المتبعة في إصدار السندات الربوية، من ضمان رأس المال، كما تحرم حملة الصكوك من ملكيتهم لأصولهم ومن ثم بيعها ونيل حقوقهم منها في حالة التعثر أو الإفلاس لأنهم لا يملكونها قانونياً، ومن ثم فإن هذه الصكوك لا تحمل من الصكوك إلا اسمها، وتخرجها عن مضمونها وحقيقتها الشرعية في أنها تمثل ملكية حصص شائعة في موجودات لها غُنمها وعليها غُرمها، ولا تعرف لضمان رأس المال أو العينة سبيلاً.
3- تقوم على المشاركة في الغُنم والغُرم:
إن مقتضى المشاركات التي يقوم عليها مبدأ إصدار الصكوك من حيث العلاقة بين المشتركين فيها هو الاشتراك في الربح والخسارة بصرف النظر عن صيغة الاستثمار المعمول بها في تنمية الموجودات الممثلة بالوحدات الاستثمارية من متاجرة أو إجارة أو غيرهما، ومع أن بعض الاتجاهات الفقهية لا ترى بأساً في تفاوت حصص الربح عن حصص الملكية (بخلاف الخسارة المتفق على وجوب تطابقها مع الملكية)، فإن المتبع هو التطابق بين نسبة الربح ونسبة الملكية، فمالكوها يشاركون في غُنمها حسب الاتفاق المبين في نشرة الإصدار، ويتحملون غُرمها بنسبة ما يملكه كل منهم، وفقاً لقاعدة «الغُنم بالغُرم»، أو «الخراج بالضمان».
4- للتصكيك نوعان: ابتداء أو انتهاء:
قد يكون التصكيك ابتداء من خلال جمع رأس مال تمويل إنشاء مشروع معين، بطرح صكوكه للمستثمرين في سوق المال لتكون حصيلة الاكتتاب فيها رأس مال المشروع.
كما قد يكون التصكيك انتهاء بالحصول على السيولة اللازمة لمشروع معين، وبموجبه يتم تحويل الأصول إلى وحدات تتمثل في الصكوك وعرضها في سوق المال لجذب مدخرات لتمويل هذا المشروع.
5- يخضع إصدار وتداول الصكوك لضوابط شرعية:
تخضع الصكوك لضوابط شرعية عامة وخاصة، أما الضوابط العامة فلا ينبغي أن تتعامل هذه الصكوك في محرم سواء أكان محرماً لعينه من خلال التعامل في أنشطة محرمة كالخمور والخنزير ونحوها، أو محرماً لكسبه من خلال التعامل بالربا والنجش والغش والتدليس والخديعة والقمار ونحو ذلك، وأما الضوابط الخاصة فإن الصكوك تصدر وتتداول على أساس عقود شرعية وفقاً لصيغ تمويل إسلامية بضوابط شرعية تنظم إصدارها وتداولها.
وهذه الخاصية تتميز بها الصكوك عن الأوراق المالية التقليدية التي لا تتحاكم إلى أي ضوابط شرعية، فلا فرق عندها بين الحلال والحرام، ولا مكان فيها للالتزام بضوابط الشريعة في الإصدار أو التداول.
ورغم ذلك، فإنه للأسف الشديد تم الانحراف في التطبيق العملي للصكوك حتى أصبح جلها منجذباً للسندات الربوية وفاقداً للمصداقية الشرعية، من خلال النص في نشرة الإصدار على التعهد بإعادة شراء الصك بحسب قيمته الاسمية، وهو ما يعني ضمان رأس المال، وهو الأمر الذي لا يجوز شرعاً، فضلاً عن انتشار الصكوك القائمة على بيع العينة خاصة والعينة الإيجارية عامة، واتخذت لتحقيق ذلك الشركة ذات الغرض الخاص بصورة شكلية محللاً.
وهذا ما حذرت منه قرارات المجامع الفقهية، وكذلك هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية أكثر من مرة ولكن دون جدوى، فقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي، فمتى يرجع هؤلاء عن فقه الحيل المذمومة والهندسة المالية الشيطانية إلى رحاب دائرة المصداقية الشرعية والكفاءة الاقتصادية والكفاءة الاجتماعية للصكوك؟!