فوجئ المسلمون والعالم الإسلامي بقرار وزير الداخلية الفرنسي، مؤخراً، بمصادرة كتاب لم يتعرض للشرق أو الغرب في أمر من الأمور، للمفكر الإسلامي والداعية المعروف د. يوسف القرضاوي.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تصادر فيها “عاصمة النور” كتباً إسلامية، فقد صادرت كتب المفكر سيد قطب في معرض للكتاب منذ عدة أشهر، ولم يغب عن الذهن ما تعانيه الطالبات المسلمات من منع لهن من ارتداء الحجاب الذي هو فريضة إسلامية رغم حصولهن على أحكام قضائية.
في وقت يتحدث فيه مراقبون عن علاقة الإسلام بالغرب بعيداً عن العداء، يقوم الغرب الفرنسي بما يعد عاراً على شعار الحرية الذي يرفعه دائماً! وقد أباح لـ “آيات شيطانية” أن ينتشر بما فيه من سبّ وتهجم على الإسلام!
التقت “المجتمع” بالأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي لكي تتعرف منه على أصل القضية وحكاية الكتاب، وهل بالكتاب ما يعد عداء للغرب؟ وما منهج الكتاب؟ وما تعليق فضيلته على قرار المنع؟ ولماذا صدر القرار في هذا الوقت الذي تشهد فيه فرنسا انتخابات قريبة؟
قال د. يوسف القرضاوي: هذا الكتاب ألفته بناء على تكليف من شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت (1958م)، والإدارة العامة للثقافة الإسلامية ومديرها في ذلك الوقت فضيلة د. محمد البهي، وكان تأليفه ليترجم إلى اللغات الأجنبية لتستفيد منه الجاليات الإسلامية في البلاد المختلفة، وأجازته اللجنة وأثنت عليه.
فالكتاب يتحدث عن سلوك المسلم في مجتمعه وأموره العامة والخاصة، ويتعلق بأمور المسلمين في مخاطبتهم بما يجوز ولا يجوز، فهو أمر أو كتاب يخص المسلمين أولاً.
والكتاب لم يتعرض لا للغرب ولا للشرق، إنما هو يبحث في أمور تفصيلية تتعلق بأحكام الإسلام، فلا عداوة فيه للغرب ولا للشرق.
الكتاب يعتمد منهج التيسير والتسامح، والتيسير هو روح الشريعة الإسلامية، كما قال الله عز وجل: (يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ) (النساء: 28)، وكما قال: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78).
وقد انتُقد الكتاب من بعض المسلمين؛ لاعتماده هذا المنهج في التيسير والتسامح، ولأنه لم يأخذ بالعزائم في كل الأمور أو في بعضها.
ما كنا نتوقع من فرنسا، وهي أم الحريات التي ترعى حقوق الإنسان، أن يصادر الفكر عندها، فكيف تصادر حرية المسلمة الشخصية، كيف تفرض عليها أن تتخلى عن فرض من فرائض الدين؟!
فمن المعروف أن العلمانية الليبرالية لا تأخذ موقفاً من الدين؛ لا تعاديه ولا تواليه، لكنها لا تحاربه، غير العلمانية التي تعادي الدين.
إن هذا الموقف الفرنسي مخالف للدساتير، ومخالف لحقوق الإنسان، ولميثاق الأمم المتحدة، ولمبادئ الثورة الفرنسية.
إن الحضارة الإسلامية واسعة الثقافات، متنوعة الأفكار، لم تفرض على أحد أن يتخلى عن واجب من واجبات الدين، بل تركت لأهل الكتاب ما هو مباح عندهم ومحرم عند المسلمين، بشرط ألا يروجوا ذلك بين المسلمين.
ولقد قلت هذا لفرنسا، فلعله بلغهم واعتبروني عدواً (العداوة للقيم الجمهورية كما ذكر قرار الداخلية الفرنسية).
أنا أعتقد أن منع توزيع وبيع الكتاب يتفق مع الحملة العدائية ضد المسلمين في فرنسا، بل هو جزء منها، وغير بعيد عن موضوع الحجاب، وقد قلت في الكتاب: إن الحجاب فريضة إسلامية، والعلمانية الفرنسية تقول: إن الحجاب رمز إسلامي، وقد قلت لهم قبل أشهر في مؤتمر عقد في فرنسا (أكتوبر 1994م): إن الحجاب ليس رمزاً إسلامياً؛ لأن الرمز لا وظيفة له، والحجاب له وظيفة، ووظيفته الستر والاحتشام، فلا حق لفرنسا أن تمنع هذا الكتاب ولا مبرر لها في منعه، وقد طبع هذا الكتاب ما يقارب خمسين طبعة عربية، كما ترجم إلى ما يزيد على أربعين لغة أجنبية، فليس في الكتاب ما يعادي الغرب والشرق.
إن الكتاب في فصله الأخير يتحدث عن المسلمين وعلاقتهم بغير المسلمين في المجتمع الإسلامي، وتفصيل ذلك هو ما يدور حول الآيتين الكريمتين من سورة “الممتحنة”: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {8} إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة).
ونلاحظ أن الآية قد ورد فيها لفظ “البر” (أَن تَبَرُّوهُمْ)، والبر يستعمل في معاملة الوالدين، وهما أقرب القرابات، وهذا دليل على عناية الإسلام بهذا الأمر، كما أنه يجوز في الإسلام التزوج من الكتابيات، وهذا يعني أن يكون هناك أخوال وأقارب وأصهار وغير ذلك، وهذا أيضاً يعني حسن المعاشرة بين المسلمين وغير المسلمين داخل المجتمع الإسلامي، إن الإسلام جعل أهل الكتاب أقرب للمسلمين من المشركين، حيث جعل لهم أحكاماً مميزة.
مسألة الانتخابات محاولة تملق اليمين المتطرف في فرنسا بأخذ مثل هذه القرارات الجزافية لإرضاء المتشددين بمثل هذا الموقف العدائي للجالية الإسلامية الكبيرة في فرنسا.
أهذه هي الحرية الفرنسية الغربية أن يدافعوا عن “الآيات الشيطانية” التي فيها تهجم على نبي الإسلام وبيته وحرماته، ويعتبر ذلك من الحريات التي يدافع عنها، ويصادر كتاب “الحلال والحرام” الذي يطبع منذ أكثر من أربعين عاماً، ولا يمس الغرب في قليل ولا كثير؟!
___________________________________
العدد (1149)، ص28-29 – بتاريخ: بتاريخ: 9 ذو الحجة 1415ه – 9/5/1995م.