كان استشراف المستقبل الذي ساد في سنوات مضت يطرح أن الماضي معلوم علماً يقينياً، وأن الحاضر بطبيعة الحال معلوم، وأن أساس مجتمعاتنا ثابت، وأن المستقبل سينبني على هذه الأسس المتينة داخل وبفضل تنمية التوجهات المهيمنة للاقتصاد، والتقنية والعلم، وهكذا اعتقد الفكر التقنو – بيروقراطي أن بإمكانه التنبؤ بالمستقبل، بل اعتقد في إطار تفاؤله المعتوه، أن القرن الحادي والعشرين سيقطف الثمار الناضجة لتقدم الإنسانية.
بَيْدَ أن المشتغلين باستشراف المستقبل شيدوا مستقبلاً خيالياً انطلاقاً من حاضر مجرد، فالحاضر الزائف المسمَّن بالهرمونات حلَّ، بالنسبة إليهم، محل المستقبل، والأدوات الفظة والمبتورة والباترة التي كانت تساعدهم على إدراك الواقع وتصوره أعمت بصيرتهم لا عن رؤية ما ليس متوقعاً فحسب، بل وعن رؤية ما هو متوقع.
والحال أن المستقبل يتولد من الحاضر، ومعنى ذلك أن الصعوبة الأولى للتفكير في المستقبل هي صعوبة التفكير في الحاضر.
لكن قد لا يكفي التفكير في الحاضر بشكل صحيح لكي نكون قادرين على استشراف المستقبل.
إذن، ينبغي علينا محاولة النظر في حلقة الماضي/ الحاضر/ المستقبل بامتلاكنا لمعنى البُعد المركب الذاتي للتطور التاريخي، وهكذا تفيد عملية التوقع استكشاف معنى دوامة الحاضر.
من الأكيد أن حالة العالم الحاضر تتضمن بشكل مضمر حالات عالم المستقبل، لكنها تتضمن بذوراً مجهرية ستتبلور لكنها الآن غير مرئية بالنسبة لأعيننا.. ومن جهة أخرى، فرغم أن الإبداعات والابتكارات والاختراعات تتوقف على شروط موجودة، فإنه لا يمكن تصورها قبل ظهورها.
إن المستقبل ربما سيكون خليطاً من الأمور المتوقعة وغير المتوقعة، وإلى هذا ينبغي أن نضيف أن المستقبل ضروري لمعرفة الحاضر، وهو الذي سيقوم بالانتقاء داخل التفاعلات التي تشكل الحاضر.
وعلى ضوء المستقبل الذي أصبح حاضراً والذي جعل من الحاضر ماضياً، يتوارى اللاعبون الأساسيون في الحاضر تحت الظل، في حين يخرج اللاعبون الحقيقيون من الظل، ومن الكواليس ومن تحت الطاولات وخلف الستائر، لكي يمارسوا دورهم في لعبة الزمن.
يترتب على ذلك أن المعرفة المتعلقة بالماضي وبالحاضر هي معرفة تتخللها ثغرات، مثلها مثل المعرفة المتعلقة بالمستقبل، وأن هذه المعارف مترابطة فيما بينها: فمعرفة الماضي خاضعة للحاضر، والذي تكون المعرفة المتعلقة به خاضعة للمستقبل.
لقد اعتقد رجال الاقتصاد البرجوازيين خلال القرن الماضي أن المجتمع الصناعي ثم ما بعد الصناعي يقوم على أرض صلبة، وأننا كنا تقريباً نعيش في نهاية التاريخ، واعتقدوا أن المستقبل لم يكن سوى استمرارية للحاضر.
والحال أننا بدأنا نفهم اليوم أنه ليس الغرب وحده الذي دخل في أزمة اقتصادية وثقافية، ولكن قاعدة هذا المجتمع وذاك، انحرفت وتشققت.
ختاماً يمكن القول: إن كلاً من الشرق والغرب تنخرهما عوامل مأزومة، والعالم الثالث يزداد تخلفه عمقاً.