يعدُّ إشكالُ القِيَم عند مراهقِ اليوم من الإشكالات البحثيَّة التي تُثِير طرحَ نفسها بقوَّة في حلبة الدراسة؛ لكونها تمسُّ قضية تربوية راهنة، ويستدعي هذا الإشكالُ البحثَ بشكلٍ عميق في التصادمِ القيمي الذي يعيشه مراهق هذا العصر، والذي تنتابه حيرةٌ وشك لا مثيل لهما أمام تناقض القيم في أوساطه؛ بحيث يجدُ داخل أسرته نوعًا من القيم تختلف كثيرًا مع ما يمرر له خارجها، سواء في المدرسة أو المجتمع، وكذا مع ما تحاول المنظومة الإعلامية إرسالَه عبر خطابها، مما يدفع بالمراهقِ إلى نهج سلوك متهوِّر إزاء كل موقف يقع فيه، وهذا ما يُفرِز تصرفات فجائية قابلة للتغيُّر السريع، وفي هذه الحالة الحَرِجة يكون في إشكال كبير أمام هذا الخليط القيميِّ غير المتجانِس، فيصير بذلك رهينًا لتناقضاته التي تحكمُها انفعالاتُه العاطفية، الشيء الذي يُحدِث له اضطراباتٍ حادة في ظل عدم وجود توازن قيميٍّ عنده.
فما الذي أسهم في خَلْق هذا النوع من الإشكال العميق على مستوى القِيَم لدى مراهق اليوم بالضبط؟
بعد دراستي لواقعِ حالِ مراهق اليوم، فإني أرى أنه كان بالإمكان تفادي نشوءِ هذا الإشكال، لو لم يحصل نوعٌ من التأخير المفرِط في عملية غرس القيم وتثبيتها في مواقعها عند مراهقِ هذا الزمن، والتي تعدُّ من بين العوامل الرئيسية التي خلَقت هذا الإشكال عنده، ومما زاد في تعميقِه اتجاهه نحو ممارسة مجموعة من السلوكيات المنحرفة؛ أبرزها:
– ازدواجية الآراء والمعايير:
تصدر مِن مراهق اليوم آراءٌ وقراراتٌ متناقضة لتعاملِه بمعايير مزدوجة؛ إذ إن إبداءَ فكرة أو قرار يكون مبنيًّا على معايير هشَّة بعيدة عن القناعات الثابتة، فتغيب المسؤوليةُ في تحمُّل عواقب ما يتم إصداره، وهذا مما له ارتباطٌ وثيق بكيفية التعامل مع الاختيارات القيمية قبل تبنِّي أي قيمة، فاتخاذ المراهق قرارًا عشوائيًّا وإبداؤه لرأي سرعان ما يتم نقضه من تلقاء نفسه برأي آخر مخالف لسابقه – لَمِمَّا يوقع من حوله في نوع من الحيرة والاستغراب، بل وقد يفقد ثقة الآخرين به، وهذا راجعٌ لعدم وضوح المعايير المعتمَدة لاتخاذ قراراته.
– بروز الميكيافيلية السلوكية:
إن النظر إلى الأمور بنظرة برغماتية دون إعطاء أي اعتبارٍ للبُعْد القيمي، هو ما أسهم كثيرًا في سيادة الميكيافيلية السلوكية عند مراهق اليوم، التي لا تؤمن إلا بتحقيق المصلحة الشخصية بأي وسيلة كانت، فأينما كانت تلك المصلحة فذاك هو المقصدُ الذي يسعى له بأي شيء كان، وهذا ما يؤكد على أن هذه الرؤية الانتهازية غيرُ سوية؛ لأنها لا تؤمن بقواعد البناء القيمي السليم، وتتنافى مع ما ترجو منظومة القيم الإنسانية ترسيخَه.
– فقدان الهُوِيَّة:
ليس المقصود بالهُوِيَّة هنا تلك البطاقة التعريفية التي تحمل اسمَ الشخص وعنوانه وكذا جنسيته، بل إنها كل ما يجعل المراهق يجدُ ذاته ويعرِفها بعمقٍ؛ أي: إنها تكمن فيما يساعده على تنمية قدرته على خلق خصوصية متفرِّدة، ومن الأمور التي يصعب إيجادُها في فترة المراهقة الآن الكينونةُ الهُوِيَّاتية، خصوصًا أمام صعود الصراع القيمي المشتدِّ في محيط مراهق اليوم، سواء داخليًّا أو خارجيًّا، الذي تضيع بين أحضانِه هُوِيَّةُ المراهق، يعني أنه يجد صعوبةً في تحديد اختياراته بلا تردد؛ بسبب تصادُم القِيَم الذي يفقده القدرةَ على تبنِّي قِيَم معيَّنة وخاصة به، لهذا يتعرَّض المراهقون كثيرًا لِما يُعرَف بفقدان الهُوِيَّة، الأمر الذي يجعل بناء الهُوِيَّة عند المراهق عمليةً صعبة جدًّا.
– غياب النموذج والقدوة:
يعتبر غيابُ النموذج الذي يستحقُّ الاقتداء به عند المراهق -أي: القدوة التي تقوم بالتأثير والإقناع-: مما يجعل مراهقَ اليوم يفتقد للتوجيهِ السليم والمتابعة اليقظة المتَّزِنة، فيقع فريسةً سهلةً بين يدي التمرُّد الذي يحوِّله إلى ثائر على كل ما يربطه بالآخرين، بما في ذلك القيم السائدة في محيطه المحافظ، فيتَّجِه صوب وجهةٍ مجهولة الحال، مما يعرض قيمَه إلى الإصابة بنوعٍ من الخلخلة التي تسهل من التخلية القيمية، والانسلاخ من كل ما يربطه بمجتمعه، بمعنى أنه يصبح مستلبًا إزاء أي شيء يُحِسُّ بالانتماء له، فينجرِف مع أي ظاهرةٍ وأي سلوك منحرف دون تفكير، محاولةً منه لإثبات أنه يمتَلِكُ حرية الاختيار.
– فساد الخطاب الإعلامي:
للخطاب الإعلامي انعكاسٌ خطيرٌ على شريحةِ المراهقين اليوم، خصوصًا حين يغيبُ الوعي بحمولةِ ذلك الخطاب الذي يستعملُ وسائل متطوِّرة للتضليل والتدليس، وتزدادُ خطورته أكثر حين يتمُّ عبره إيصالُ رسائل تدميرية لكل ما هو أخلاقي، وتشويهية لكل ما هو قيمي، وذلك مما يرفع من درجة التأثير السلبي لهذا النوع من الخطاب على مراهق اليوم، الذي يمنحه مصداقية، ويَثِقُ في مضمونه ثقةً عمياء؛ أي: اعتباره كل ما يصدر من هذه الجهة حقيقةً مقبولة لا تحتمل النقد والتشكيك.
– ضياع الاستقلالية:
ذهبَتِ استقلاليةُ مراهق اليوم في الاتجاه الخاطئ، حين تم تربية الأفراد على التعنُّت والتشبُّث بآرائهم، وعدم تقبُّل ما هو مختلفٌ عنهم، بحجة الاستقلالية والحرية الفردية؛ أي: إننا بهذا نريدُ استقلالية تصنع الدغمائيين منذ مرحلة المراهقة، لذا ينبغي أن يهتمَّ المربُّون بتمرير قيم حُسْن تدبير الاختلاف في نفوس المراهقين؛ لكي تسهل عملية تقبُّل الآخر المختلف بكل حمولته الفكرية، ولتكون استقلالية مراهق اليوم ذاهبةً في الطريق الصحيح.
– قصور النظام التربوي:
لعل أبرزَ مؤشِّرات وقوعِ القصور في النظام التربوي المتَّبع، تظهرُ بشكل واضح من خلال ما تحظَى به مكونات وأركان هذه المنظومة مِن ضعف من الناحية القيمية، والذي خلَّف مراهقين معطوبين قيميًّا، خصوصًا عندما لا تنسجم العناصر المكوِّنة للنظام التربوي فيما يتعلق بالاختيارات والتوجهات في مجال القيم، مما يجعلُ إصلاح هذا الميدان المتهاوِي في الوقت الراهن مطلبًا آنيًّا ومستعجلًا، الأمر الذي يدفَعُ إلى الإسراعِ في بلورة وإعداد خريطة إصلاحية تعالج المشكلاتِ القيمية لمدرسة الحاضر، وتضع تصورًا جديدًا لمدرسة المستقبل بشكل دقيقٍ، فنجاحُ التربية على القيم رهينٌ بمدى قدرة المدرسة على ترسيخ قيمٍ تتناسب مع احتياجات المتعلِّم في كل المراحل.
ومِن كل ما سبق تأكد وجود المراهق في حالة فوضى قيمية، جعلت أساس بُنيانه القيمي مصابًا بتصدعات كثيرة؛ لأنه يفتقد للبوصلة التي توجِّهه نحو تحديد نوع معينٍ من القيم التي يمكن أن يتبنَّاها، وعدم الخلط بين ما هو متناقض؛ كالقيم التي لا تجمع بعضها مع بعض، وإلا فلن يستطيع المراهق السيرَ في هذه الحياة بمناعةٍ قوية تتماشى مع التغيُّرات السريعة الطارئة في هذا العصر، التي تستدعي المواجهة والتحدي لمقاومة كلِّ ما يحدث، والتمكن من مجاراته، وإلا سقط البناء القيميُّ كله.
بقي أن أقول في الأخير
إن معالجة إشكالِ القيم عند مراهق اليوم لا يمكن أن تتيسَّر إذا لم يتمَّ اعتماد رؤية شموليَّة في النظر لهذا النوع من الإشكال؛ أي: اعتبار جميع ارتباطاته المتشعبة وتَمفصلاته العَلائقية، فأخطر شيءٍ قد يصيب المراهقَ اليوم هو سوء التغذية القيمية؛ لأنها صعبةُ التجاوز في هذه المرحلة، عكس مرحلة الطفولة التي تغرسُ فيها القيم لكي تزهر وتثمر في الكِبَر، والمراهق الذي يعيشُ بدون تَبَنٍّ قيميٍّ ذات مرجعية محدَّدة كالذي فقدت صحتُه مخزونَها المناعي، فأصبح جسمُه بذلك لا يقوى على التصدِّي لأبسط الأسقام؛ أي: إن الفاقد للبوصلة القيمية يصبح عرضةً للانجراف مع أي سلوكٍ منحرفٍ عابر في اتجاهه، فلِلقيم جذور ضاربة في النفوس غير قابلة للاقتلاع إذا غُرست في الصغر، مهما تغيرت الظروف والأوضاع، ومهما ساءت الأحوال والأمور تبقى ثابتةً؛ أي: إن جذورها راسخة تتحمَّل وتتكيف مع كل المتغيرات التي يمكن أن تحدُث.
المصدر: “الألوكة”.