تواصل عمليات المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية تدحرجها في ظل تصاعد وتكثيف لعمليات إطلاق النار واستهداف المستوطنين في مدن الشمال على وجه التحديد، والانتقال من حالة الدفاع ومواجهة القوات المقتحمة للمدن والبلدات، إلى التخطيط والهجوم ومباغتة المستوطنين وجنود الاحتلال في الطرق الخارجية ونقاط التماس.
وتتربع مدينتي نابلس وجنين شمال الضفة بميدان المواجهة، حتى باتت المدينتان مصدر قلق وتهديد متواصل للاحتلال ومستوطنيه، ما دفع المستوطنون لمطالبة وزير جيش الاحتلال بيني غانتس، بشن عملية عسكرية واسعة النطاق على غرار عملية “السور الواقي” التي شنها جيش الاحتلال على مدن الضفة عام 2002.
وانطلقت عملية “السور الواقي” في 29 آذار/مارس 2002 وانتهت في 10 أيار/مايو من ذات العام، وحشدت فيها حكومة الاحتلال ما يقارب 30 ألف جندي؛ بهدف وقف مظاهر انتفاضة الأقصى الثانية، والقضاء على خلايا المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية.
واحتشد مستوطنون أمام منزل “غانتس” قبل أيام مطالبين بتنفيذ العملية العسكرية، وجمع السلاح من منازل الفلسطينيين، وذهب بهم الأمر للمطالبة بإعلان بعض المناطق “عسكرية مغلقة” للمستوطنين فقط، في إشارة لإغلاق مدن الضفة.
ومع مطلع أكتوبر/ تشرين أول الجاري، نفذ مقاومون فلسطينيون 60 عملًا مقاوماً بالضفة والقدس، أبرزها 10 عمليات إطلاق نار استهدفت قوات الاحتلال ومستوطنيه، أصيب خلالها 3 منهم، خلال 24 ساعة فقط، وتركزت عمليات إطلاق النار وإلقاء عبوات محلية الصنع في نابلس وجنين.
خطط بديلة..
المتابع والمختص بالشأن “الإسرائيلي” محمد أبو علان، يشير إلى أن المستوى العسكري الصهيوني تراجع عن التفكير بتنفيذ عملية واسعة النطاق بالضفة الغربية، ولو بشكل غير مباشر.
ويضيف: “رؤية الاحتلال الحالية تتمثل بالعمل عبر اقتحامات للمدن الفلسطينية واستهداف من يسمونهم القنابل الموقوتة أو المطلوبين، بالاعتماد على المعلومات الاستخبارية التي تتوفر لديهم ويعملون على جمعها”.
ونفّذ جيش الاحتلال عمليات اقتحام لنابلس وجنين خلال الشهور الماضية، واغتيال لمقاومين من مجموعة “عرين الأسود” المقاوِمة في نابلس، وعمليات أخرى مشابهة للمقاومين في مخيم جنين.
ويتردد جيش الاحتلال في تنفيذ عملية واسعة وفق “أبو علان” لسببين: الأول أنها قد تؤدي لمزيد من الشهداء الفلسطينيين، بالتالي توسّع دائرة المقاومة وردة الفعل ضد الاحتلال، وهو ما لا يريده، فهو يريد تقليص عمليات المقاومة.
إضافة “لوجود تخوف لدى الاحتلال بأن العملية العسكرية الواسعة قد تؤدي لدخول قطاع غزة للمواجهة المباشرة، الأمر الذي سيشكل معضلة أخرى له”.
حتى على صعيد استخدام الطائرات المسيّرة في تنفيذ عمليات اغتيال بالضفة، يشير “ضيف سند” لوجود خلافات داخل المؤسسة الأمنية الصهيونية حول استخدامها، موضحًا :” غانتس قال في لقاء له أمس الثلاثاء مع صحيفة “إسرائيل اليوم” إن رئيس الأركان أفيف كوخافي لا يملك صلاحية إصدار التعليمات بتنفيذ عمليات اغتيال داخل الضفة ، وأنّ هذا القرار يصدر من وزير الجيش، وهو حتى الآن لم يتخذ مثل هذا القرار، وإن كان هناك ضرورة له سيقرر في حينه”.
وعكَس الموقف العسكري نفسه على الصحفيين والمحللين الصهاينة، الذين تجندوا لصالح موقف المؤسسة العسكرية، بحسب “أبو علان”.
ويستطرد: “بدأ هؤلاء يتحدثون عن عدد المسلحين في نابلس وجنين وأنه لا يتجاوز 150 مسلحًا، بالتالي الأمر ليس بحاجة لعملية واسعة كالسور الواقي، وإنما التعامل من خلال عملية “كاسر الأمواج” التي باشر بها جيش الاحتلال منذ شهر آذار/مارس الماضي، لوقف وقطع سلسلة العمليات التي بدأت من الداخل الفلسطيني المحتل، على الرغم من أن الصحفيين والمحللين الصهاينة كانوا أول من شجّع على عملية واسعة بالضفة”.
خيارات محدودة..
من ناحيته، يُبيّن الباحث في مركز يبوس للدراسات الإستراتيجية برام الله والمتابع للإعلام الإسرائيلي كريم قرط، أن دعوات المستوطنين تشكل عامل ضغط على المستوى السياسي والأمني في إسرائيل، لكنها ليست المحرك الأساسي لرد فعل الجيش، فعملية مثل هذا النوع تبنى على قراءات وتحليلات للواقع الأمني والسياسي”.
ويقول “قرط” : “إن المستوى الأمني الصهيوني يجد نفسه أمام خيارات محدودة، فشن عملية واسعة على الضفة على غرار السور الواقي، له تبعات كبيرة يمكن أن تؤدي لإشعال الضفة كاملة، في ضوء أن الأحداث تتركز الآن في الشمال”.
ويتفق “قرط” مع سابقه بتخوف الكيان الصهيوني من دخول المقاومة في غزة على خط المواجهة، وربما تؤدي إلى تفجير جبهات أخرى، كالجبهة اللبنانية.
ويكمل: “عملية من هذا النوع قد تؤدي لانهيار السلطة الفلسطينية، أو إضعافها بشكل كبير على أقل تقدير، وإذا حدث ذلك فإن حكومة الاحتلال ستجد نفسها مضطرة للعودة لحكم الضفة بشكل مباشر، وهو ما سيضع جيش الاحتلال في مأزق دولي وإعادة خطاب الاحتلال القانوني إلى الواجهة”.
كما يمكن أن ينتج عن خيار العملية العسكرية، مشاكل سياسية أعمق، كتعالي النقد الموجه للكيان الصهيوني بوصفها دولة أبارتهايد، وما سيتبع ذلك من حملات مقاطعة، وفق الباحث.
وبناء على ذلك، يستبعد “ضيف سند” تنفيذ عملية عسكرية واسعة بالضفة، مردفًا: “الظروف الحالية على الأرض تختلف عن ما كان عليه الوضع خلال الانتفاضة الثانية، فالمقاومة مركزة بشكل أساسي في شمال الضفة فقط، وعليه ليس هناك ضرورة لشن عملية على الضفة كاملة”.
ويرى الباحث أن هناك خيارات أخرى يتعامل معها المستوى الأمني الصهيوني، وهي ترك الأحداث حتى تهدأ وحدها دون تدخل من جيش الاحتلال، ولكن هذا الخيار يضمر مخاطر جمة، حيث إن ترك الأحداث وتجاهلها ربما يزيد من حدة المقاومة ونطاقها الجغرافي”.
استمرار الاغتيالات..
أما الخيار الثالث الذي تعمل حكومة الكيان الصهيوني بصدده، يُحدثنا “قرط” عنه: “هو الاستمرار بالعمل في الطريقة الحالية، اقتحامات واعتقالات وتصفيات، مع إدخال عناصر جديدة في الميدان مثل التصفية من الجو وتفعيل أسلحة إطلاق النار الذاتي، والاستمرار في التعاون مع السلطة الفلسطينية لاحتواء الظاهرة”.
إلا أن الإشكالية في هذا الخيار _ تبعًا لقرط_ هي أن الاغتيالات والاعتقالات والاقتحامات المتكررة تزيد الاحتكاك مع قوات الاحتلال، وتؤدي لتجدد المواجهات في كل مرة يقتحم الاحتلال نابلس أو جنين.
وحول سياسة العقاب الجماعي الذي يمارسه الاحتلال بإغلاق الحواجز المحيطة بنابلس وجنين، يُشير إلى أنها “سياسة معهودة، يترافق معها محاولات تضييق وخنق اقتصادي، والاحتلال يدرك أن هذا التضييق غير مجدٍ على المدى البعيد؛ لأن سوء الأوضاع الاقتصادية سيعمل على تفجير الأوضاع مجددا”.
ويختم بالقول: “سياسة العقاب الجماعي تواجه انتقادات بإسرائيل، فسياستهم المعتادة تقوم على مبدأ العصا والجزرة، بمعنى أن يظل لدى الفلسطينيين ما يخافون من خسارته، ولكن في حال العقاب الجماعي فعليا لا تُبقي حكومة الاحتلال للفلسطينيين ما يخسرونه، ربما تحرمهم من تصاريح العمل، أو تغلق مدنهم وقراهم، أو تهدم بيوتهم، الأمر الذي يساهم في التصعيد وليس في الردع”.