شبهة جديدة يثيرها المرجفون في مجال التشريع الإسلامي حول المرأة والقوامة التي جعلها الإسلام من حق الرجال على النساء، وزعموا أن هذه الآية الكريمة (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) (النساء: 34)، فيها إهانة للمرأة وتمييز للرجل عليها، وأنه يتعالى عليها في كل صغيرة وكبيرة، فلا حول لها ولا قوة أمام إرادته وجبروته!
إنها فتنة جديدة يثيرها هؤلاء المرجفون في قنواتهم المشبوهة وصحفهم الصفراء ومواقع التواصل التي امتلأت بقاذوراتهم، ولو كان الأمر بيد هؤلاء المرجفين لحرَّفُوا القرآن وبدلوه ليجعلوا من أوهامهم في مساواة النساء بالرجال مساواة مطلقة حقيقة وواقعاً.
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
ولبيان بطلان هذه الشبهة لا بد أن نقف عند عدة أمور تُعتبر من البديهيات في تنظيم التشريع الإسلامي لعلاقة الرجل بالمرأة على النحو التالي:
1- إن ميزان الإسلام في التفضل بين الناس هو تقوى الله تعالى، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)، وهذه حقيقة لا تحتمل الشك أو الجدل، فأيما امرأة أكثر إيماناً وطاعة لله تعالى لا جرم أنها خير وأفضل من صفوف مرصوصة من الرجال الخاوية قلوبهم، الخالية من الإيمان والتقوى السادرة في الضلال الباطل(1).
2- قرر الإسلام أن بيت الزوجية يقوم على المحبة والمودة والسكن فقال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21)، ومع ذلك لم يترك الأمور هكذا هملاً إذ لا بد لهذه السفينة من قائد يقودها ويتولى أمرها وقاعدة الإسلام أنه إذا كان ثلاثة في سفر فلا بد أن يؤمِروا عليهم أحداً منهم، قال صلى الله عليه وسلم: “إذا خرجَ ثلاثةٌ في سفَرٍ فليؤمِّروا أحدَهُم”(2)، والأمير فيهم أكثر تبعة ومسؤولية، وأقلهم استفادة بإمارته(3).
3- الواقع يثبت أن الرياسة ضرورية لكل مجتمع من المجتمعات -قل ذلك المجتمع أو كثر- وليس من الحكمة أن يُترك مجتمع دون أن يعرف له رئيس يرجع إليه في الرأي وعند الاختلاف وفى مهام الأمور، وإذا تصور مجتمع على هذا النحو ليس له محور يدور حوله ويعتصم به، فهو مجتمع مآله حتماً إلى السقوط والانحلال، مجتمع صائر لا محالة إلى الفوضى والاضطراب بالتنازع والتضارب وتناقض الرغبات، وبذلك ينقلب المجتمع رأساً على عقب تتفكك وحداته وتتناثر لبناته(4).
4- إن الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، وهي المؤسسة الأولى في الحياة الإنسانية، الأولى من ناحية أنها نقطة البدء التي تؤثر في كل مراحل الطريق، والثانية من ناحية الأهمية، لأنها تزاول إنشاء وتنشئة العنصر الإنساني، وهو أكرم عناصر هذا الكون في التصور الإسلامي، وإذا كانت المؤسسات الأخرى الأقل شأنا والأرخص سعراً كالمؤسسات المالية والصناعية والتجارية وما إليها لا يوكل أمرها –عادة- إلا لأكفأ المرشحين لها ممن تخصصوا في هذا الفرع عملياً، ودربوا عليه عملياً فوق ما وهبوا من استعدادات طبيعية للإدارة والقوامة، إذا كان هذا الشأن في المؤسسات الأقل شأناً والأرخص سعراً فأولى أن تتبع هذه القاعدة في مؤسسة الأسرة التي تنشئ أثمن عناصر الكون.. العنصر الإنساني”(5).
ومن هذا المنطلق نستطيع أن نقول: إن قوامة الرجل على المرأة والبيت لا تؤثر على مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، كما يزعم هؤلاء المرجفون؛ وذلك لأن الإسلام حين قررها وجعلها حقاً للرجل، إنما كان في ذلك معتمداً على عدة أمور، من أهمها:
1- مراعاة الفطرة والاستعدادات الموهوبة لكل من الرجل والمرأة:
فمن المُسَلَم به ابتداء أن الرجل والمرأة كلاهما من خلق الله، وأن الله تعالى لا يريد أن يظلم أحداً من خلقه وهو يهيئه ويعده لوظيفة خاصة، ويمنحه الاستعدادات اللازمة لإحسان هذه الوظيفة، وقد خلق الله الناس ذكراً وأنثى وجعل من وظائف المرأة أن تحمل وتضع وترضع وتكفل ثمرة الاتصال بينها وبين الرجل، وهي وظائف ضخمة أولاً وخطيرة ثانياً، وليست هينة ولا يسيرة بحيث تؤدى بدون إعداد عضوي ونفسى وعقلي عميق غائر في كيان الأنثى، فكان عدلاً كذلك أن ينوط بالشطر الثاني -الرجل– توفير الحاجات الضرورية، وتوفير الحماية كذلك للأنثى، كي تتفرغ لوظيفتها الخطيرة، ولا يحمل عليها أن تحمل وتضع وترضع وتكفل، ثم تعمل وتكد وتسهر لحماية نفسها وطفلها في آن واحد.
وكان عدلاً أن يمنح الرجل من الخصائص في تكوينه العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينه على أداء وظائفه هذه، وأن تمنح المرأة في تكوينها العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينها على أداء وظائفها تلك(6).
ومن هنا فقد زود الله تعالى المرأة بالخصائص التي تمكنها من أداء وظيفتها في الحياة، كما زود الرجل بالخصائص التي تمكنه من أداء رسالته في رعاية شؤون الأسرة وإدارتها.
إن تقسيم الوظائف الفطرية بين الرجل والمرأة يستند إلى تعليلات معقولة مشاهدة الآثار حيث إن الوضع الطبيعي للمرأة أن تقوم على رعاية البيت وتدبير شئون الأولاد وحضانتهم بما عُرف عنها من طبع لطيف وعاطفة رقيقة فياضة يسهل معها أن تنزل إلى مستوى أبنائها، فتفكر بعقولهم وتملأ أرواحهم أملاً وإشراقا وتسعد قلوبهم مودة وصفاء، وتنمى أحاسيسهم الطفولية، فإذا ما كبروا تناولتهم يد الأب ليأخذوا عنه تجارب الحياة ويتحملوا بأسها بقوة وإرادة وتدبير سليم(7).
إلى جانب هذا فإن المرأة تتوق نفسها إلى وجود الرجل القوام عليها؛ ولذا نراها تشعر بالحرمان والنقص والقلق وقلة السعادة عندما تعيش مع رجل لا يزاول حقيقة مهام القوامة، وتنقصه صفاتها اللازمة، فيكل إليها هي القوامة، وهي حقيقة ملحوظة تُسلم بها حتى المنحرفات الخابطات في الظلام”(8).
ومن هنا يتبين أن الخصائص النفسية والفطرية المزود بها كل من الرجل والمرأة بصفة عامة تؤهل الرجل بشكل أمثل لتحمل مسئوليات إدارة شئون الأسرة، والقيام على رعايتها والتصدي لزعامتها، والتفكير الدائم بشئونها وتوجيه الأمر والنهى لأعضائها، وإحكام حبات عقدها، والربط فيما بينها بنظام متين من التعاطف والمودة والعدل، وفى مقابل الخصائص التي تؤهل الرجل بصفة عامة لهذه الأمور تأهيلاً أمثل، جاءت خصائص المرأة بشكل عام تحبب إليها أن تجد لدى الرجل ملجأ وسنداً وقوة وإرادة واستقرار عاطفة وحكمة فى تصريف الأمور، وترى في الانضواء إليه أُنسها وطمأنينتها وأمنها وصلاح بالها وراحتها من أعباء المسئوليات الجسام، ولعل هذا هو ما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ)(9).
2- مراعاة الجانب المادي:
وهو الذي أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: (وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ)، فالرجل هو المسؤول في التشريع الإسلامي عن الإنفاق على الأسرة، والبحث عن موارد رزقها خارج البيت من مأكل ومشرب وملبس وهو الذي يدفع المهر ويجهز البيت ويهيئ موارده ومفرداته.
فإذا كان الرجل هو المسئول عن الإنفاق على الأسرة فمن حقه أن تكون له رئاسة الأسرة جريا على القاعدة المُسَلَم بها “الغنم بالغرم”، وإلا فليس من العدالة في شيء أن يكلف فرد بالإنفاق على هيئة ما بدون أن تكون له القوامة عليها والإشراف على شؤونها(10).
3- مراعاة الناحية الفكرية:
لدى أهل الفكر في مسألة القوامة داخل الأسرة مجموعة من الاحتمالات:
الأول: أن يكون الرجل هو القيم في الأسرة باستمراره.
الثاني: أن تكون المرأة هي القيم في الأسرة باستمرار.
الثالث: أن يكون كلّ من الرجل والمرأة قيماً على سبيل الشركة المتساوية.
الرابع: أن يتناوبا القوامة وفق قسمة زمنية.
الخامس: أن يتقاسمها القوامة، بأن يكون لكل منهما اختصاصات يكون هو القيم فيها(11).
أما الشركة في القوامة سواء أكانت عامة أو على سبيل التناوب الزمني، أو كانت على سبيل الاختصاصات فإنها ستؤدى حتماً إلى الفوضى والتنازع ورغبة كل فريق بأن يعلو على صاحبه ويستبد به ما لم يكن ذلك برأي صاحب القوامة الفرد وطوعه واختياره وبدافع من التفاهم والتواد بين الزوجين.
وقد أيدت تجارب المجتمعات الإنسانية فساد الشركة في الرياسة، ولذلك نلاحظ تركيز المسئولية الكبرى في رئيس واحد لدى أي نظام اجتماعي من الأنظمة التي عرفها الناس، وأما إسناد القوامة إلى المرأة دون الرجل، فهو قلب الأوضاع حيث ينافي ما تقتضيه طبيعة التكوين الفطري للمرأة، وهو يؤدي حتماً إلى اختلال ونقص في الحياة الاجتماعية لما فيه من عكس لطبائع الأشياء فلم يبق إلا الاحتمال الأول وهو أن يكون الرجل القيم في الأسرة(12).
ومما يجدر ذكره هنا أن قوامة الرجل على المرأة لا تعنى أبدا منح الرجل حق القهر أو الاستبداد بالمرأة، أو أنها سبب خسران ودونية للمرأة تهون من كرامتها أو تغض من شخصيتها، كلا بل هي قوامه رحيمة مبنية على المودة والرحمة وتَحَمُل المسئولية والتكاليف لجلب الخير والمصلحة للمرأة في مختلف أحوالها(13).
فهل يحق لهؤلاء المرجفين بعد هذا البيان أن يدَّعوا أن القوامة تمييز ضد المرأة؟!
__________________________________
(1) بتصرف من كتاب: “افتراءات على الإسلام والمسلمين” – المؤلف: د. أمير عبد العزيز – 1/84.
(2) أخرجه أبو داود (2608)، والطبراني في (المعجم الأوسط) (8093)، والبيهقي (10651)
(3) بتصرف من كتاب: “عمل المرأة في الميزان” – المؤلف: د. محمد على البار – 1/47.
(4) الإسلام عقيدة وشريعة – الشيخ: محمود شلتوت – 1/ 157، 158.
(5) في ظلال القرآن – الأستاذ: سيد قطب – 2/650.
(6) في ظلال القرآن الكريم – الأستاذ/: سيد قطب – 2/650.
(7) بتصرف من كتاب “عمل المرأة في الميزان” – د. محمد على البار – 1/49.
(8) في ظلال القرآن – الأستاذ: سيد قطب – 2/651.
(9) أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها – عبد الرحمن حسن حبنكة – 1/ 602
(10) حقوق الإنسان في الإسلام – د. علي عبد الواحد وافي – 1/103.
(11) أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها – عبد الرحمن حسن حبنكة – 1/603.
(12) بتصرف من كتاب: أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها – عبد الرحمن حسن حبنكة – 1/600.
(13) انظر: كتاب “قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة – الشيخ محمد الغزالي – 1/166.