يحيل مصطلح “مجتمع الإعلام” في هذه الدراسة، على معطيين أساسيين اثنين: فهو يحيل على كل الإبداعات والمستجدات التكنولوجية في ميدان الإعلام والمعلومات والاتصال، من صحافة مكتوبة، وإذاعة مسموعة، وتلفزة مرئية، وشبكات رقمية متصفحة، وما سوى ذلك. ويحيل أيضا على كل الاستخدامات والاستعمالات، والممارسات المجتمعاتية المتمحورة حول الميدان إياه، وكذا مجموع الإدراكات والتمثلات الفردية والجمعية، التي تنطلق منه، أو تترتب عنه، أو تأتي كنتيجة طبيعية للتفاعل معه في الزمن والمكان.
هو (مجتمع الإعلام أقصد) بنية شبكية وتقنية مندمجة، تراهن على أن تضمن للمجتمع، كل المجتمع، بمفاصله الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والترابية والثقافية وغيرها، تضمن له سبل البلوغ لهذه الإبداعات والمستجدات، والإفادة منها على مستوى إنتاج وتوزيع وتقاسم، ثم استعمال كل أشكال المعلومات والبيانات والمضامين والمعارف والقيم الرمزية، التي تتفتق عن هذه الإبداعات والمستجدات، أو توفرها هذه الأخيرة دون إقصاء أو تمييز أو استثناء(1).
برز مصطلح “مجتمع الإعلام” محتشمًا بالبدايات الأولى لظهوره، كونه تلازم مع مصطلح رديف له (مصطلح طرق الإعلام والاتصال السيّارة)، لكن سرعان ما صادفه الرواج الواسع، فاندمج في سياق عالمي واسع، عقب تبني منظمة الأمم المتحدة له، بالعشرية الأولى من هذا القرن، في إطار قمتي المعلومات العالمية بجنيف 2003، وبتونس 2005، ليصبح بالتالي جزءًا لا يتجزأ من الأدبيات الرسمية التي اعتمدتها الدول، أو سارت بركبها السياسات العمومية.
الإشكال المطروح هنا لا يروم فقط طرح السؤال حول سبل وإمكانيات الإمساك بالبعد الأخلاقي للإعلام، ومن خلاله لمجتمع الإعلام، بل طرح ذات السؤال أيضًا بخصوص ثلاثية “الإعلام والعولمة والأخلاق”، ما دامت المسألة لم تعد مرتبطة بمجال الإعلام في صيغته التقليدية المتعارف عليها، بقدر ما غدت محيلة، في ظل تزايد مد انفتاح الاقتصاديات والثقافات وانتصار “قيم السوق”، محيلة على حق المجتمعات في الحصول على المعلومة والمعرفة بحد ذاتهما، ثم كأداة للتنمية المتوازنة والمستدامة، ناهيك عن دورهما في توزيع الثروة الرمزية بين الفضاءات الترابية المختلفة.
ولعل كل هذه الاعتبارات هي التي دفعت قمتي مجتمع المعلومات المشار إليها أعلاه، إلى التركيز على الأبعاد الأخلاقية لمجتمع الإعلام بالقول: “إن مجتمع الإعلام يجب أن يرتكز على القيم الكونية، ويحاول أن يدفع إلى الأمام بقيم الملك الكوني المشترك، ويتجنب الاستخدامات المضرة المترتبة عن استعمال تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال”(2).
القيم الكونية الملمح إليها هنا ليست قيمًا مجردة أو مكتفية بذاتها، بل هي المؤطّرة بكل القيم “العالمية” التي ترتكز على ضمان التعددية الثقافية واللغوية والتوزيع العادل “للتقنيات الثقافية”، موارد مادية ورموز معرفية، مع العمل على أن يكون كل ذلك في خدمة تجسير الهوة الرقمية والإدراكية بين الدول، وداخل الدولة الواحدة.
إن الهدف الأساس لهذه الورقة لا يروم الحديث في جدلية الإعلام والأخلاق من منظور معياري، كما يذهب إلى ذلك الإعلاميون والمهتمون بالأخلاق، لاسيما عندما يتم تناول هذه الجدلية بالاحتكام إلى كل وسيلة إعلامية على حدة، مكتوبة أو مسموعة أو مرئية أو مقتنية للشبكات الإلكترونية. هذا أمر له وجاهته دون شك، لكنه يبقى طرحًا تجزيئيًا واختزاليًا، ولا يتعامل مع الإشكال في شموليته الواسعة، أي: في إطار تموجات الإعلام، وقد بات مجالاً شاسعًا، معولمًا، مخترِقًا لكل الحدود الجغرافية أو القانونية، ومحتكمًا إلى منظومة في الفعل تنهل من مرجعيات السوق الحر والمفتوح، وتتخذ من “حرية التعبير الاقتصادية” فلسفة وإطارًا عامًا في الأداء.
إن الغاية من اختيارنا المنهجي الانطلاق من مصطلح مجتمع الإعلام إنما مرده تحيزنا للمقاربة الشمولية لوسائل الإعلام في علاقتها بالبُعد الأخلاقي، ليس فقط من منظور أن الأخلاق هي مكمن تميز وتمايز يتجاوز الفعل الإعلامي، ولكن كذلك لأن هذه المقاربة هي التي من شأنها أن تُبرز أن الأخلاق لم تعد المستوى الذي من المفروض أن يرجع له الإعلام كبنية مادية صرفة، بل كبيئة تتجاوز بنية الإعلام الضيقة، لتُسائِل المجتمع برمته، في شتى ضروب تفاعله مع الإعلام كوسط تتقاطع بصلبه كل التمثلات والرؤى والإدراكات.
في مجتمع الإعلام كقطيعة مفاهيمية
مصطلح “مجتمع الإعلام” ليس مصطلحًا جديدًا، إذا لم يكن بزاوية الميزات والسمات؛ فعلى الأقل بزاوية الاستخدام الذي تعرض له هنا أو هناك. لقد استعمله نوربير فيينير بالعام 1948، مؤكدًا على فكرة أن تداول المعلومات يعتبر الشرط الأساس للممارسة الديمقراطية(3).
من هنا، فإذا كان المصطلح غير جديد، فإن التطورات الهائلة التي طالت ميدان الإعلام والمعلومات والاتصال، على مستوى الشبكات التحتية والخدمات المتفرعة عنها، هذه التطورات أعطت لنبوءة فيينير تجسيدها الحقيقي على أرض الواقع.
إرهاصات “الظاهرة” كانت موجودة إذن منذ أواسط القرن الماضي، إلا أنها تمظهرت بقوة بداية القرن الحالي، لتتمحور حول أربع سمات كبرى لم تكن معهودة من قبل:
السمة الأولى: اللامادية(4)، والمقصود بها هنا ظاهرة الاندماج القوي بين قطاعات المعلوماتية والاتصالات السلكية واللاسلكية والمسموع والمرئي. هذه الظاهرة تأتّت بدورها بفضل تقنية الرقمنة، التي وحّدت لغة هذه الروافد المختلفة، وجعلتها تتخاطب فيما بينها بواسطة بتات ومتتالية سلسلات من 0 و1.
لم تعد المعلومات بموجب ذلك، تضع تمييزًا بين الخطوط الهاتفية التي تربط بين كل حواسيب العالم، وبين كلمة مسموعة أو صورة متلفزة، أو بيان معلوماتي، أو محادثة هاتفية، أو ما سواها. لقد بات بفضل اللغة الجديدة، التي استحدثتها التقنية الرقمية، بات لكل وسيلة إعلامية رديف رقمي يترجمها ويعبّر عنها.
يبدو من غير الموضوعي والحالة هاته، الحديث عن أخلاق للصحافة المكتوبة، وأخرى للصحافة المسموعة، وثالثة للصحافة المرئية، كل فيما يخصها، وتبعًا لمنطق تمايزها عن بعضها البعض. لقد أضحى من الضروري التساؤل في البعد الأخلاقي “الجديد”، الذي من المفروض أن يكون الخيط الناظم لهذه الروافد الثلاثة وقد غدت “قطاعًا” واحدًا، بنيته التحتية واحدة، ولغته واحدة، وتوجهه المستقبلي واحد.
السمة الثانية: المعرفة؛ فإذا كانت عبارة “محتوى” تستخدم للدلالة على الرهانات الصناعية والاقتصادية لمجتمع الإعلام، وعبارة “معلومة” للدلالة على المضمون الرقمي المروج من بين ظهرانيه، فإن عبارة “المعرفة” غالبًا ما بدأت تُستعمل للتأشير على الأبعاد الاجتماعية والثقافية التي يحملها ذات المجتمع في طياته، أو يدفع بها للأمام.
والقصد هو أن مجتمع الإعلام قد فسح في المجال واسعًا للتعبير عن تحولين أساسيين اثنين: الأول: هو تقويض مبدأ احتكار المعرفة من لدن نخب ضيقة ومحددة، كانت الوحيدة التي تملك وسائل الحصول عليها. المعرفة باتت، بزمن مجتمع الإعلام، ملكًا مشتركًا تحطمت على محرابه شتى أشكال اللاتوازن والإقصاء اللذين كانا سائدين بزمن الندرة، زمن ما قبل الثورة الرقمية. أما التحول الثاني فهو أن مجتمع الإعلام لم يكتف بتجسيد مبدأ تقاسم المعرفة، بل أدى إلى تجذير مبدأ التشاركية في إنتاجها وتخزينها وترويجها، واستهلاكها بالفضاء العام، وعلى نطاق كوني(5).
بهذه السمة أيضًا، يبدو أن البعد الأخلاقي بات حقًا وحقيقة على المحك؛ فهو لم يعد وجهًا لوجه مع حالات “منعزلة”، كان أمر ضبطها ممكنًا نسبيًا من الناحية الأخلاقية، بل بات بإزاء مجال تتقاطع بصلبه التحولات التكنولوجية مع القطائع المؤسساتية، مع اعتبارات عولمة الاقتصاديات الوطنية والثقافات، ومع تزايد مد اقتصاد السوق في الزمن كما في المكان.
السمة الثالثة: المرونة(6)، والمقصود بها هنا أننا بإزاء مجتمع الإعلام، قد بتنا بإزاء مجتمع تتأتّى القيمة المضافة بصلبه من المعارف والمهن الجديدة؛ فالتعلم المستمر، وتجديد المعارف، والرفع من منسوب الكفاءة، قد غدت هي المحرك العميق للمجتمع إياه، ليس فقط بالنسبة للأفراد، ولكن أيضًا بالنسبة للمنظمات.
ويبدو البعد الأخلاقي، بهذه السمة، على المحك أيضًا وبقوة؛ إذ إن نزوع الفاعلين الاستراتيجيين الكبار لسياسات التدويل وتعدد الجنسية، قد أفرغت “الوازع الأخلاقي” من مضمونه، أمام استراتيجيات البحث عن الأسواق، وتوسيع الحصص منها، والرفع من الربحية إلى آماد يصبح الكل في ظلها مع الكل ضد الكل.
السمة الرابعة: التحول، والتحول بزمن مجتمع الإعلام، لم يمس فقط طبيعة ومكونات الدولة الوطنية، أو المؤسسات القومية، أو أدوار التقنين والتنظيم الملازمة لهم، بل مسّ أيضًا مفاهيم كبرى، كانت لعقود طويلة في مأمن من كل تشكيك أو مزايدة؛ فمفهوم رأس المال أضحى بتات إلكترونية تتنقل بين الفضاءات الجغرافية دون إكراهات كبرى. ومفهوم العمل لم يعد ممركزًا بمكان، ولا محصورًا بمجال، بل بات في حلّ منهما، بفضل الشبكات الرقمية التي مكّنت العمل عن بعد، والتبادل عن بعد، وهكذا(7).
يكمن التحدي الأخلاقي، بسمة التحول، في أن هذا الأخير غير مستقر بطبعه وطبيعته، في حين أن الأخلاق تتميز بالاستقرار والثبات، وإن تسنى لها التحول، فلا يتم لها ذلك إلا بالمدى الطويل. كيف التوفيق إذن بين حقل إعلامي متموج المكونات والطبيعة، وبُعد أخلاقي خاصيته الأساسية هي الاستقرار والتحول البطيء؟
بالتالي، فإن البعد الأخلاقي لمجتمع الإعلام إنما يستوجب مساءلة التحدي الذي يرفعه ذات المجتمع بوجه ذات البعد، في الزمن كما في المكان سواء بسواء.
البعد الأخلاقي لمجتمع الإعلام
منذ حوالي ثلاثة عقود من الزمن، خضع ميدان الإعلام والمعلومات والاتصال لإكراهين اثنين: إكراه الطفرة التكنولوجية التي طالته في العمق، وإكراه هيمنة “اقتصاد السوق” و”ثقافة السوق و”ديمقراطية السوق”، التي زعزعت ثوابته وقارّية مفاصله.
هذان الإكراهان لا يمكن إلا أن تترتب عنهما نتائج معقدة، لاسيما وأن المعلومة، في ظل مجتمع الإعلام، تحيل على الإعلام كصناعة وأداة متاجرة، وتحيل إليه كمعطى “لا مادي” ذي مكنون اجتماعي وثقافي وحضاري. المعلومة هنا تتميز عن باقي “السلع” في كونها تباع مرتين؛ فهي تباع للجمهور المتلقي، وتباع للمعلنين أو للمشهرين، باعتبارهم مصدر تمويل صناعة الإعلام.
المحك هنا سيكون حتمًا هو نسبة المشاهدة أو المتابعة، لا سواها، فيخضع منطوق المعلومة نتيجة ذلك، لا لاعتبارات المتلقي، بل لاعتبارات ذات النسبة، في مطلقها كما في نسبيتها.
بالتالي، فعوض التعامل مع المتلقي كمواطن، له الحق في معلومة موضوعية ومفيدة، إخبارية كانت أم تثقيفية أم ترفيهية، فإن التعامل لا يتم معه هنا إلا في كونه مستهلكًا، المفروض إقناعه واجتذابه وتطويعه.
وبناء على ذات التصور أيضًا، فإن “المعلومة المواطنة” لا يمكن إلا أن تتراجع، وتتراجع معها الفكرة الديمقراطية التي هي أساسها، لا بل ومادتها الخام(8).
القصد هنا هو القول بأن رهن المعلومة للمصالح والاعتبارات السياسية والتجارية والاقتصادية، من شأنه أن يمثّل خطرًا حقيقيًا على المواطنة والديمقراطية، ناهيك عن الضرر الذي قد يتسبب فيه للأخلاق؛ فتمركز وسائل الإعلام والاتصال بين يدي ثلّة من الشركات الصناعية والتجارية، من شأنه أن يهدد مبدأ التعددية، ومن ثمة مبدأ الاختلاف الذي لا قيمة للديمقراطية في تغييبه أو استبعاده.
أخلاقيات المهنة الإعلامية تساؤلٌ ليس فقط من زاوية مبدأ الاستقلالية، الذي يرفع من سقف الأداء الموضوعي والمتوازن، بل تساؤل أيضًا بالنظر إلى مآل ومصير التعددية الإعلامية، في سياق غزو البعد المالي/المضارباتي الصرف، لمجال إنتاج وترويج وتمكين الجمهور من المعلومة ومن المعرفة.
ثم إن ذات الأخلاقيات قد باتت حقًا وحقيقة في محك من المستجدات المتنوعة والمختلفة التي حملها مجتمع الإعلام بوجه المهنة الإعلامية في حد ذاتها، وبوجه الحقل الذي تفعل فيه ذات المهنة، أو تتفاعل معه حاضرًا كما بالمستقبل. إنها استوجبت وتستوجب السرعة في جمع المعلومة ونشرها بطريقة آنية، في ظل وفرة في المعلومات ضخمة. كثرة المعلومات هنا تقتل المعلومة، لا بل وتخلق التشويش، ثم التجزِيء، ثم النسيان بمحصلة المطاف، بالنسبة للمتلقي. الإعلامي بدوره لا يستطيع المجاراة؛ إذ تحت ضغط السرعة والآنية، فإنه يضطر إلى تجاهل مبدأ التحقق والتثبت من المعلومة، ولا يعير كبير اعتبار لمبدأ تقديم المعلومات وفق أولويتها أو أهميتها أو قيمتها عند المتلقي(9).
إن هوس الإعلامي، في ظل مجتمع الإعلام وتزايد مد اقتصاد السوق، الوصول إلى أكبر عدد من المتلقين، ليس من باب تزويدهم بالمعلومات التي يحتاجونها، بل بغرض اجتذابهم كمستهلكين، المفروض “بيعهم” للمعلنين والمشهرين.
وهذا السلوك مشروع إلى حد ما؛ إذ التمويل عن طريق الإشهار والإعلان هو أداة بقاء الوسيلة الإعلامية، وأحد سبل عصرنتها. المفارقة هنا أن المعلومة التي هي ممون الديمقراطية ومزودها، سرعان ما تتحول إلى بضاعة وسلعة، حيث لا يهتم رجل السياسة مثلاً، عند مروره بالتلفزة أو بالإذاعة، بما يقدم من برامج وأفكار، بقدر ما يهتم بمظهره وقدرته على غزو النفوس والعقول.
يبدو لنا أن التجاوز على أخلاقيات المهنة الإعلامية، لهذا الاعتبار أو ذاك، إنما تترتب عنه أزمة ثقة حقيقية بين الإعلامي والمتلقي. والدليل على ذلك أن العديد من استطلاعات الرأي تبين بانتظام تراجع مصداقية “وسائل مجتمع الإعلام”، فرادى وجماعات؛ مما يطرح سؤال شرعيتها ومشروعيتها.
يرى دانيال كورنو أن أسباب تراجع مصداقية الإعلام إنما تتمثل في الاستقلالية الهشة للإعلاميين في علاقتهم بباقي السلط، في الخلط بين حرية التعبير التي يمتلكها كل منّا، وحرية الإعلام المحتكرة من لدن البعض فقط، وفي التصرف السلبي في المعلومة، بما يخدم السباق نحو نسب المتابعة عوض عكس الواقع(10).
بهذه الزوايا، يبدو للكاتب أن استحضار البعد الأخلاقي هو القمين، إذا لم يكن للقضاء على هذه الممارسات، فعلى الأقل للتضييق من مجالها، والتقليص من تأثيراتها المؤكدة.
بهذه النقطة أيضًا، يقول جيل ليبوفتسكي: “في المجتمعات ما بعد الديمقراطية، فإن الأخلاق(11) لا تنبعث من جديد كمثال لا مشروط، ولكن كرد المجتمعات الليبرالية على التخوفات المتأتية من السلط الجديدة، التقنو/علمية منها والإعلامية” على حد سواء(12). بالتالي، فإن الحفاظ على المبادئ الديمقراطية إنما يستوجب استنبات سلط مضادة، تتكفل بها إما القوانين والتشريعات، أو تكون من “اختصاصات” الأخلاقيات المهنية المؤطّرة للمجال الإعلامي في أبعاده المختلفة.
والقصد هنا هو القول بأن مجتمع الإعلام يستنفر قواعد في اللعب تستحضر التصحيح والتنظيم، وتستحضر إلى جانبهما، الحذر وتأكيد دور السلط المضادة. لذلك، فإن الممارسة الإعلامية يجب أن توضع في سياق تقاطع أربعة حقول أساس، لكل بلد أو دولة أن تحدد منسوب كل حقل منها، وفق ظروفها وسياقها:
حقل القانون: والمقصود به القانون باعتباره نصوصًا تشريعية ولوائح تنظيمية، مُدَوَّنة وسارية المفعول نصًا صريحًا لا يقبل التأويل. ثمة بعد زجري في العملية.
حقل الأخلاق: ويُراد به مجموع القيم والنواميس والأعراف التي تتوافق الجماعة بشأنها، ويتقاطع بصلبها الاجتماعي بالثقافي بالرمزي، وهي غير مُدَوَّنة في الغالب، اللهم إلا ما تستوجبه شروط العيش المشترك.
حقل الأخلاقيات: هي مجموع القيم التي تُستنبط مرجعيتها من حقل القانون ومن حقل الأخلاق، لكنها لا تخضع للتدوين بحكم طابعها التوجيهي. هي ترسم الحد الأدنى من الشروط، وتترك الباقي للفاعلين المباشرين، لهم أن ينظموا نشاطهم بطريقتهم.
حقل أخلاقيات المهنة: والمقصود بها مجموع المعايير التي غالبًا ما يسنُّها الفاعلون فيما بينهم دونما تدخل كبير من لدن القانون. هي مزيج من القانون ومن الأخلاق ومن الأخلاقيات. وهي أيضًا طريقة يعتمدها الفاعلون لتحديد قواعد اللعبة فيما بينهم. ويعد ميثاق الشرف جزء منها.
إلا أن هذه الحقول لا تغطي مبدئيًا نفس المجال، بحكم طبيعتها ووظيفتها الأصل. فالأخلاق تضع المبادئ الكبرى وقواعد السلوك العامة، التي من المفروض أن تؤسس للحد الأدنى في الفعل والتفاعل، ثم إن من الدول من يضع قوانين تتضمن قواعد إجبارية، لكنها تفسح في المجال واسعًا للاجتهاد القضائي. ثم إن الممارسة الإعلامية نفسها غالبًا ما تسنّ أخلاقيات ومعايير، يتم التوافق بشأنها، فتسري على الممارسين، إعلاميين وناشرين على حد سواء… وهكذا(13).
والمفارقة أن المجتمعات، في ظل مجتمع الإعلام، أضحت معقدة ومتشابكة، وتأطيرها بالقوانين واللوائح والتشريعات أضحى أمرًا متعذرًا. بالتالي، فقد غدت المراقبة الاجتماعية، عبر النصوص القانونية أو الاجتهادات القضائية، غير قادرة على ضبط تموجات الحرية، وانتقال مستويات المسؤولية إلى نطاقات أكثر رحابة وسعة(14).
من المؤكد أن الحقول الأربعة المذكورة تتداخل وتتقاطع وتتكامل في أكثر من عنصر، لكنها بالآن ذاته حمّالة تناقضات وأسئلة جوهرية تستوجب الإجابة؛ فأخلاقيات المهنة مثلاً لا يمكن إلا أن ترتكز على مبادئ الأخلاق بالمفهوم العام، لاسيما بجانبي واجبات تقديم الحقائق واحترام الآخر، وترتكز على منطوق القانون المكرس للحق في المعلومة وحرية التعبير والديمقراطية والتثبت من المعلومة، والتعددية واحترام الشرعية والمشروعية، وخصوصيات الأفراد والجماعات، والحقوق المميزة التي يمنحها القانون للشباب أو للمرأة وما سوى ذلك(15).
صحيح أن القانون والاجتهاد القضائي قد منحا للإعلامي، قبل مجتمع الإعلام وفي سياقه، ضمانات عدة، من قبيل مبدأ الضمير(16)، والحق في عدم إفشاء مصادر معلوماته، حتى وإن كان قد أجبره بالمقابل على الالتزام بتقديم المعلومة الصحيحة، المثبتة والمفيدة. إلا أن القانون والتشريع والاجتهاد، وإن كانت شرطًا ضروريًا، فهي غير كافية لضمان ممارسة إعلامية سليمة، “نظيفة” وبعيدة عن الشبهات. بهذه النقطة تحديدًا، فإن أخلاقيات المهنة هي التي من المفروض أن تضمن ما عجز القانون والاجتهاد والتشريع عن ضمانه، أو ضمانه بالسرعة المطلوبة.
إلا أن أخلاقيات المهنة بهذه الزاوية، تثير بين الممارسين أنفسهم إشكالات عدة، بالإمكان اختزالها في اثنين أساسيين:
فهناك من يرى أن الحرية معطى مطلق، لا يجب بأية حال من الأحوال، إخضاعه للتقنين أو التشريع، بل ولا يجب أن يكون مادة للاجتهاد حتى.
وهناك من يرى أن القانون الوضعي لا يمكنه ضبط الأنشطة المتحركة والمتموجة، والأفضل، وفق هذا الرأي، أن يترك أو يفوض “الصلاحية” للرقابة الذاتية وللتقييم الذاتي(17).
وفي الحالتين معًا، يبدو أن ثمة حقًا ضرورة لترسيم أخلاقيات في المهنة، تضع القواعد الكبرى التي من شأنها وضع الحدود أمام الإعلامي، كما الناشر على حد سواء.
خلاصة
صحيح أن جزءًا لا يُستهان به من أخلاقيات المهنة الإعلامية يحدده القانون والتشريع، وإلى حد ما الاجتهاد، لكن القانون أو التشريع أو الاجتهاد لا يتدخل في ترتيب المواد والمعلومات، ولا من شأنهم أن يفرضوا على الإعلامي ما الذي يجب وضعه بالصفحة الأولى لجريدة، أو إدراجه بالصفحات الداخلية لها، أو تقديم هذا الخبر على ذاك بالإذاعة أو بالتلفزة، أو صياغة هذه المادة بهذه الطريقة أو تلك، قبل وضعها على الموقع بالإنترنت، أو تقاسمها بهذه الشبكة الاجتماعية أو تلك، وهكذا(18).
إن القاعدة الجوهرية لأخلاقيات المهنة، والمتمثلة في فصل المعلومة عن سبل التعليق عليها، لا تخص بأية حال من الأحوال مستوى القانون أو التشريع أو الاجتهاد؛ إذ هي من مجال أخلاقيات المهنة الداخلية الصرفة، لا من سواها(19).
كل هذا قد يتم القبول به أو التعامل معه إلا أنه لا يعني أن ليس ثمة بين القانون وأخلاقيات المهنة نقط التقاء وتقاطع؛ إذ إن أخلاقيات مهنة الصحافة، والإعلام بوجه عام، مرتبطة أشد ما يكون الارتباط بالقانون والتشريع، لكنها مرتبطة أيضًا بأخلاقيات الممارسة على الأرض، والتي قد لا يكون للمشرّع بإزائها دور كبير.
بالمقابل، فإذا كان القانون، ببعض البلدان ذات التقاليد المركزية كفرنسا مثلاً، يغطي المجال الإعلامي بقوة، فإن دولاً أخرى -الأنجلوسكسونية تحديدًا- تحتكم للأخلاقيات أكثر من احتكامها للوائح والتشريعات. بمعنى أنه إذا استطاع القانون أن يبسط هيمنته على المهنة الإعلامية، فلأن أصحاب هذه المهنة لم يستطيعوا التأسيس لقواعد سلوك واضحة ودقيقة، تضمن لهم الاستقلالية الذاتية وتقيهم تدخل القانون.
بالمقابل، فلو سلّمنا بأن ثمة نقط التقاء وتقاطع بين الإعلام والقانون في ظل مجتمع الإعلام المتكرس هنا وهناك، فإن ذلك لا يعني أنه لا توجد مناطق توتر بينهما لهذا الاعتبار أو ذاك، لا، بل إن بعض الإعلاميين يزايدون على القانون، لدرجة الادعاء من لدن بعضهم، أن لا أداء إعلاميًا جيدًا إذا تم احترام القانون. والمثال الصارخ لهذه الحالة هو “اغتصاب” سرية التحقيق باسم حرية الإعلام وحرية التعبير، لاسيما بظل تساهل القانون مع ذلك، واعتباره له “هفوة” لا مجال للتوقف عندها كثيرًا(20).
بالتالي، فإن المفروض حقًا لتجاوز ضغط القانون، إنما العمل على إيجاد “عقد اجتماعي” بين الإعلامي والجمهور المتلقي، ليس فقط فيما يتعلق بالبحث عن المعلومة وتحديد مضمونها، بل أيضًا في طريقة صياغتها وتقديمها. بمعنى أن الإعلامي لا يمكنه تجاهل المتلقي، أو الاشتغال دونما استحضاره كمستهلك للمنتوج، ثم كشخص من الواجب احترامه، ثم كمواطن من المفروض إخباره.
لا تضيف الأخلاقيات المهنية في مجال الإعلام هنا إضافات جديدة إلى جانب القانون، بل تعمل على تثمين القيم السامية الكبرى (الاستقلالية، التعددية، المصداقية) التي تضمن الحرية للذين يشتغلون على المعلومة ويروجونها لفائدة هذا المتلقي أو ذاك. إن الأخلاق الإعلامية تمثل هنا ضمانة أساسية، لا، بل شرطًا لضمان الحرية الإعلامية تنظيمًا وسلوكًا وممارسة.
___________________________________
الهوامش
- Cf. Curien. C (Dir (, “La société de l’information”, CES, La Documentation Française, Paris, 2004, 312.
- راجع وثائق قمتي المعلومات العالمي، الموقع المخصص لها بالعربية بشبكة الإنترنت:
http://www.un.org/arabic/conferences/wsis/
- Wiener. N, “Cybernetics or control and communication in the animal and the machine”, MIT Press, Cambridge, 1948.
- L’immatérialité.
- Cf. Tapscott. D, Caston. C, “Paradigm shift : the new promise of information technolgy”, Mc Graw Hill, New York, 1993.
- La flexibilité.
- يحيى اليحياوي، حصار الإعلام: دراسات في المشهد الإعلامي المعاصر (منشورات عكاظ، الرباط، 2006).
- Cf. Cayrol. R, “Médias et démocratie : le dérive”, Presses de Sciences Po, Paris, 1997.
- Cornu. D, “Journalisme et vérité”, Labor et Fides, Genève, 1994.
- Cornu. D, “Journalisme et vérité.. “, Ouv. Précité.
- Ethique.
- Lipovetsky. G et Alii, “L’écran global”, Seuil, Paris, 2007.
- Cf. Libois. B, “Ethique de l’information”, Université de Bruxelles, 1994.
- Cf. Fullsack. J. Mathien. M, “Ethique de la société de l’information”, Bruylant, 2009, 264.
- Kapitz. C, “L’éthique saisie par les médias”, ENS Lettres et Sciences Humaines, Paris, Octobre 2005.
- Clause de conscience.
- رشيد حسانة، الأخلاقيات الإعلامية في الممارسة الإعلامية، مجلة الحوار المتمدن، العدد 2904، فبراير/شباط 2010.
- Cf. Simonian-Gineste. H, “La déontologie journalistique : déontologie et droit”, Presses Universitaires IEP Toulouse, 1994.
- Elliot. D et Alii, “Responsible journalism”, Sage, Londres, 1998.
- Média pouvoirs, “Justice et médias”, Quatrième Trimestre, n° 1, Paris, 1997.
——
* أستاذ بجامعة محمد الخامس، الرباط، المغرب. والموضوع نقلا عن “مركز الجزيرة للدراسات”.