عاش المسلمون في عصر النبوة ولا مصدر للأحكام في حقيقة الأمر إلا الوحي ينزل بدءاً بتشريع، أو حلاً لإشكال، أو إجابة لسؤال، وما على الرسول إلا البيان والتفصيل، فإذا أقر الله تعالى ما وقع من الرسول صلى الله عليه وسلم أو صحبه الكرام، صار ذلك في منزلة الوحي من السماء؛ فمضى عصر النبوة ولم يكن هناك اختلاف في حكم من الأحكام؛ إذ كان الوحي مستمراً، والقول الفصل عند اختلاف الآراء في شأن من الشؤون هو الرجوع إلى قول الله تعالى، أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: “وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ” الشورى: 10، وقال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلً” النساء: 59.
أقبل الصحابة بعد وفاة الرسول على القرآن والسُّنة وما لم يجدوا له حكماً فيهما لجؤوا فيه إلى الرأي
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن التشريع الإسلامي بمعنى سن الأحكام الشرعية وإنشائها لم يكن إلا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ومنه هو فقط؛ إذ لم يجعل الله لأحد غيرِ نبيه سلطةَ التشريع([1])، ومن رحمة الله تعالى بالأمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت إلا وقد اكتمل الدين الإسلامي بكل تشريعاته الأساسية، قال تعالى: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا” المائدة: 3.
وبدأ بانقطاع الوحي عصر جديد، حمل عبءَ الحياة فيه، وقيادةَ الدولة المسلمة الخلفاءُ الراشدون، وكبار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، والحياة لا تقف، والوقائع تتجدد، والأحداث تفرض نفسها تتطلب الحكم والفتيا، وتلح في الجواب، وضاعف من ذلك أن عصر الخلفاء الراشدين كان عصراً خصباً مليئاً بالأحداث؛ كانت الدولة غضة في أول أمرها؛ حيث يكون النمو وثباً وقفزاً، فمنذ بويع أبو بكر رضي الله عنه ماجت البادية بالردة، وتحفزت فارس، وتأهبت الروم، فأخذ أبو بكر رضي الله عنه في قمع الردة، وتأديب المترصدين المتحفزين، الذين أحاطوا بالدولة المسلمة يريدون أن يسدوا على الدعوة المنافذ، ويطفئوا نور الله، وتابع على ذلك الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، وفي مثل هذه الحياة النابضة تتوالى المسائل، وتتجدد الأحداث، فكيف كان موقف الصحابة رضي الله عنهم؟؟
لقد أقبل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين على القرآن الكريم، وعلى ما بين أيديهم من سُنة الرسول صلى الله عليه وسلم لعلمهم بمنزلتها من القرآن؛ ولكنَّ الأحداث تتجدد، والوقائع تتعدد، فما لم يجدوا له حكماً في الكتاب والسنة، لجأوا فيه إلى الرأي، ولقد سن لهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتهاده أمامهم، وبإقراره من اجتهد منهم على اجتهاده.
لقد لجأ الصحابة إذاً إلى الرأي فيما لم يجدوه منصوصاً في الكتاب، ولم تَجْرِ به سنة، ولكنهم رضي الله عنهم كانوا يستشعرون خطورةَ منصب الإفتاء، فيتحرجون، ويتدافعون، قال عبدُ الرحمن بنُ أبي ليلى: “أدركت عشرين ومائةً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان منهم محدِّث إلا وَدَّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا مُفتٍ إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا”([2])، فكانوا لذلك يتشاورون في أحكام الوقائع ورعاً من كل منهم أن ينفرد بالحكم، ونتج عن ذلك ظهور الإجماع، كمصدر من مصادر الفقه، وهو في الواقع لون من ألوان الاجتهاد الجماعي، وعدم اتساع الخلاف بين الصحابة.([3])
يعد مصطلح الاجتهاد الجماعي من المصطلحات المعاصرة إذ لم يرد له ذكر عند المتقدمين
تعريف الاجتهاد:
الاجتهاد لغة: هو افتعال من الجهد([4])، وقال ابن فارس: “الجيم والهاء والدال أصله المشقة ثم يحمل عليه ما يقاربه، يقال: جهدت نفسي وأجهدت، والجهد الطاقة([5])، وفي المصباح المنير “الجُهد بالضم في الحجاز، وبالفتح غيرهم: الوسع والطاقة، وقيل: المضموم الطاقة، والمفتوح المشقة، والجَهد بالفتح لا غير: النهاية والغاية، وهو مصدر من: جَهَد في الأمر جهداً، من باب نفع: إذا طلب حتى بلغ غايته في الطلب، واجتهد في الأمر: بذل سعيه وطاقته في طلبه ليبلغ مجهوده ويصل إلى نهايته”([6]).
وانطلاقاً مما تقدم فالاجتهاد في اللغة هو: استفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل.
أما الاجتهاد اصطلاحاً:
لقد تعددت تعريفات الأصوليين والفقهاء للاجتهاد، وهي وإن كانت متنوعة الألفاظ إلا أنها في عمومها متقاربة المعاني؛ ومن ثَم نكتفي ببعض هذه التعريفات على النحو التالي:
1- عرف ابن الهمام الاجتهاد بأنه: بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي عقلياً كان أم نقلياً، قطعياً كان أم ظنياً([7]).
2- وعرفه القرافي بأنه: استفراغ الوسع في النظر فيما يلحق فيه لوم شرعي([8]).
3- وعرفه الآمدي بأنه: استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس بالعجز عن المزيد فيه([9]).
4- وعرفه الطوفي بأنه: بذل الجهد في تعرف الحكم الشرعي([10]).
يشهد واقع الاجتهاد الجماعي أنه لا يتجاوز المسائل والقضايا الفقهية إلى الوقائع غير الفقهية
الاجتهاد الجماعي:
يعد مصطلح الاجتهاد الجماعي من المصطلحات المعاصرة إذ لم يرد له ذكر عند المتقدمين، أما من حيث الممارسة العملية فقد شهد تاريخ التشريع الإسلامي جملة من الوقائع التي هي في حقيقتها اجتهاد جماعي وإن لم تسم بهذا الاسم، ولقد حاول بعض الباحثين ربط الاجتهاد الجماعي بالإجماع تارةً باعتباره صورة من صور هذا الإجماع([11])، وتارة باعتباره مقدمة لازمة للإجماع فلا إجماع إلا باجتهاد جماعي([12])، والواقع أن كلا الرأيين محل نظر إذ الفرق قائم بين الاجتهاد الجماعي والإجماع، فالاجتهاد الجماعي هو أحد الوسائل الموصلة إلى الإجماع الذي يُعد نتيجة، وفرق بين الوسيلة والنتيجة، ومن جهة أخرى فإن كون الاجتهاد الجماعي – في بعض الأحيان – وسيلة مفضية للإجماع لا يستلزم افتقاره لهذا النوع من الاجتهاد لا سيما وقد شهدت الأمة انعقاد الإجماع باجتهادات فردية.
ولقد تعددت تعريفات العلماء للاجتهاد الجماعي على النحو التالي:
1- عرفه الأستاذ الدكتور شعبان إسماعيل بأنه: “الذي يتشاور فيه أهل العلم في القضايا المطروحة، وخصوصاً فيما يكون له طابع العموم ويهم جمهور الناس”([13]).
2- وعرفه الأستاذ الدكتور عبد المجيد الشرفي بأنه: “استفراغ أغلب الفقهاء الجهد لتحصيل ظن بحكم شرعي بطريق الاستنباط، واتفاقهم جميعاً أو أغلبهم على الحكم بعد التشاور”([14]).
3- وعرفه الدكتور العبد خليل بأنه: “اتفاق أغلب المجتهدين من أمة محمد في عصر من العصور على حكم شرعي في مسألة”([15]).
4- وعرفته ندوة الاجتهاد الجماعي في العالم الإسلامي بأنه: “اتفاق أغلبية المجتهدين في نطاق مجمع أو هيئة أو مؤسسة شرعية ينظمها ولي الأمر في دولة إسلامية على حكم شرعي عملي لم يرد به نص قطعي الثبوت والدلالة بعد بذل غاية الجهد فيما بينهم في البحث والتشاور”([16]).
وبالنظر في هذه التعريفات نجد أنها لا تخلو من عدة ملاحظات، منها ما يتصل بالصياغة ومنها ما يتصل بالقيود والأوصاف، والتعريف الأمثل للاجتهاد الجماعي هو: بذل جمع من الفقهاء وسعهم مجتمعين لتحصيل حكم شرعي.
نرجو أن تنضم هيئات الاجتهاد الجماعي في هيئة جامعة تكون لها الكلمة العليا في كل ما يخص المسلمين بالعالم
إذ يشتمل هذا التعريف على جملة من القيود التي لا بد من مراعاتها وهي:
1- إن الاجتهاد الجماعي يحصل بأي عدد يصدق عليه أنه جمع أو جماعة. 2 – أن يكون هؤلاء المجتهدون مجتمعين حين الاجتهاد وهو ما يعبر عنه البعض بـ (التشاور)، وانسجاماً مع طبيعة هذا العصر وآلياته فيقصد بالاجتماع ما كان حقيقة في مكان واحد وما كان حكماً كالاتصال عبر الهاتف أو الدوائر التلفزيونية أو شبكة المعلومات أو غيرها من وسائل الاتصال والتواصل مما يتحقق معه الاجتماع.
3- يهدف الاجتهاد إلى تحصيل حكم شرعي سواء كان ذلك متعلقاً بقضية عامة أو خاصة، ولا يشترط أن يتم ذلك من خلال هيئة أو مجمع، كما لا يشترط فيه أن يكون ذا صفة رسمية وإن كان توافر هذه الأوصاف حسناً غير أنه ليس شرطاً في حقيقة الاجتهاد الجماعي.
4- إن واقع الاجتهاد الجماعي المعاصر من خلال المجامع الفقهية وهيئات الإفتاء وما شابه ذلك يشهد بأن هذا الاجتهاد لا يقتصر على الأحكام والمسائل الفقهية وإنما يتجاوز ذلك إلى بعض القضايا والوقائع غير الفقهية.([17])
ولقد شهدت بدايات القرن الرابع عشر الهجري دعوات عدد من العلماء والباحثين إلى إحياء الاجتهاد الجماعي في شكل مؤسسي مقنن يتخذ شكل مجمع علمي أو هيئة شرعية أو ما شابه ذلك يتصدى فيه المجتهدون بالدراسة والجواب في حيادية واستقلال لمشكلات المسلمين وقضاياهم ونوازلهم.
والواقع يؤكد أن تلك النداءات آتت أُكُلها فخرج إلى الوجود عدد من المجامع
والهيئات واللجان الفقهية والشرعية والعلمية منها:
1- مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر.
2- هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية.
3- اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية.
4- المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة.
5- مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
6- مجمع الفقه الإسلامي بالهند.
7- مجمع الفقه الإسلامي بالسودان.
8- رابطة علماء المغرب.
9- قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية في الكويت.
10- المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث.
11- مجمع فقهاء الشريعة في أمريكا.
والمأمول هو أن تتمثل هذه الهيئات في هيئة جامعة على مستوى العالم الإسلامي تكون لها الكلمة العليا في كل ما يخص المسلمين على مستوى العالم.
__________________________________________________________________
[1] – نشأة الفقه الاجتهادي وتطوره – فضيلة الشيخ محمد علي السايس.: 1/11.
[2] – نشأة الفقه الاجتهادي وتطوره – فضيلة الشيخ محمد علي السايس.: 1/75.
[3] – تاريخ التشريع للخضري: 1/129.
[4] – انظر لسان العرب، لابن منظور، (3/135).
[5] – معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (1/486).
[6] – المصباح المنير، للفيومي، ص101.
[7] – التحرير في أصول الفقه، لابن الهمام، ص523.
[8] – شرح تنقيح الفصول، للقرافي، ص429، تحقيق/ طه عبد الرؤوف.
[9] – الإحكام للآمدي، (4/396) تحقيق/ إبراهيم العجوز.
[10] – شرح مختصر الروضة للطوفي، (3/576) تحقيق د/عبد الله التركي.
[11] – (الاجتهاد الجماعي وأهميته في العصر الحديث) – الدكتور/ العبد خليل ص222-226.
[12] – (الاجتهاد الجماعي المنشور) – الأستاذ الدكتور/ قطب مصطفى سانو- ص34.
[13] – الاجتهاد الجماعي ودور المجامع الفقهية في تطبيقه، الأستاذ الدكتور/ شعبان إسماعيل، ص21.
[14] – الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي – الأستاذ الدكتور/ عبد المجيد الشرفين ص46.
[15] – الاجتهاد الجماعي وأهميته في العصر الحديث، الدكتور/ العبد خليل، ص215.
[16] – أبحاث ندوة الاجتهاد الجماعي (2/1079) نقلاً عن الاجتهاد الجماعي المنشود، الأستاذ قطب سانو – ص38.
[17] – الاجتهاد الجماعي وأهميته في نوازل العصر – د. صالح بين عبد الله بن حميد – 1/15-17.
(*) من علماء الأزهر الشريف