اللصوص أنواع يا عزيزي وبينهم يُجَنّ الشبان المساكين!
يقوم بناء الرواية على أربع شخصيات رئيسية في أربعة فصول، ويمكن أن نضيف إليها شخصية خامسة، وتحمل الشخصيات الأربع عناوين الفصول الأربعة التي تقوم الرواية بالكشف عنها وسرد سيرتها والأحداث المتعلقة بها، وقد حملت الفصول في روايات أخرى لنجيب محفوظ أسماء شخصيات أساسية، ولكنها كانت تقوم بدور الراوي وتمثل رؤية ذاتية مرتبطة بالرواية ومنفصلة عنها في الوقت ذاته، فهي تحكي عن ذاتها، وتصب في الوقت نفسه في موضوع الرواية وأحداثها، وتشتبك مع شخصياتها أو بعضها بصورة وأخرى، كما نرى مثلاً في ميرامار، والحرافيش.
وفي كل الأحول يلعب الحوار، والحوار الداخلي (المونولوج) دوراً أساسياً في الكشف عن طبيعة الشخصيات وأفكارها وآلامها وآمالها، وهو ما نراه في الكرنك وغيرها.
النطق بالحكمة
أول شخصيات الكرنك شخصية قرنفلة: وهي راقصة سابقة، في الأربعين من العمر، انطفأ فيها سحر الأنوثة وجف رونق الشباب ولكن حلت محلهما روعة غامضة وأسى مؤثر (ص،4) يحبها أكثر من واحد، وبعضهم يسعى لمشاركتها في المقهى والفراش، ولكن الشباب يحبونها وتحبهم بوصفها صاحبة المكان الذي يجمعهم.. وتخصّ حلمي حمادة بالجانب العاطفي (ص، 14)، ولها رأي فيمن يسعون إلى التقرب منها، وتتناولهم برؤية من ينطق بالحكمة. تتحدث عن بعضهم مثلا فتشير إلى “عارف سليمان” الساقي: بأنه “اختلس من أجل الحب”، وتذكر “زين العابدين” الجرسون: “ينهب من أجل الطمع والطموح”، وتوضح أنهم “أنواع يا عزيزي، منهم من يأخذ لضرورة العيش لتقصير الحكومة في حقهم، ومنهم الطامحون، ومنهم من يأخذ اقتداء بالآخرين، وبين هؤلاء وأؤلئك يُجَنّ الشبان المساكين”، (ص، 12).
قرنفلة جاوزت خريف العمر ولم يبق لها من تراث الإغراء إلا المال والإخلاص…(ص، 25)، وتبدو الراقصة المعتزلة التي تنطق بالحكمة، من الشخصيات التي يحرص نجيب محفوظ على استدعائها، بحكم خبرتها الحافلة في ميدان العلاقة بين الرجل والمرأة، ولهذا نجد بعض التأويلات تجعل نطقها بالحكمة ناتجا عن خبرتها بالرجال، وإن كان هناك وجه آخر للمسألة، يقول إن عمل المرأة في المقهى يستوجب وجوب سيدة قادرة على مواجهة العمل الصعب، الذي يفرض تعاملا مع الزبائن المتنوعين داخل المقهى وفي المحلات المجاورة التي تعتمد في مشروباتها عليه.
الربع أسرة كبيرة
ويشغل الطالب اسماعيل الشيخ محور الفصل الثاني، وهو ابن بيئة فقيرة، “هل سمعت عن حارة دعبس بالحسينية؟ أبي عامل في مطعم كبدة، أمي بياعة سرّيحة، وهي تبيع أيضا الخوص والريحان في مواسم القرافة، إخوتي الكبار صبي جزار وسواق كارو وإسكافي، مسكننا مكون من حجرة وحيدة في فناء ربع، والربع كأنه أسرة كبيرة يجاوز افرادها الخمسين عدّا، وليس به حمام ولاماء، وبه مرحاض واحد في ركن الفناء… وفي الفناء يجتمع النساء، والنساء والرجال أحيانا يتبادلون الأحاديث والنكات وربما الشتائم واللكمات ويأكلون ويصلون”. (ص، 44). وقد عرف زينب دياب في الحارة منذ الطفولة، وتصدى للدفاع عنها عندما استوت صبية وحال الرقباء بينهما في المرحلة الثانوية، ووجدا الحرية في الجامعة، وانتظرا الزواج، وها هي الأحلام تتبدد ويموت كل شيء… طحنتنا أزمة الجنس وتخبطنا حيارى طويلاً، وكنت أعاني آلاما عنيفة، وكانت أيضا تعاني..(ص، 46 وما بعدها)، ويتساءل الراوي إلى أي درجة يعتبر هذا الثوري ثوريا؟ ويجيب على نفسه: إنه ثوري من نوع خاص وهو لا يخفي إيمانه بالدين.. (ص، 47).
تحلل الآدمية!
وفي حضرة خالد صفوان- رجل الأمن القوي: “تحللت البقية الباقية من آدميتي في رهبة شاملة “، (ص، 54)، ولكنه قال له:
– ثبت أن اسمك دوّن في السجل لأنك تبرعت بقرش لبناء جامع، ودون أن تكون لك صلة بهم” (ص، 56).
لقد تعرض إسماعيل لاعتقال وتنكيل وقهر، “ومع أن الظلمة كانت كثيفة إلا أنهم عصبوا عيني وأوثقوا يدي، فسابت ركبتاي… (ص،50).
كانت تجربة إسماعيل قاسية جدا، وبسببها كفر بجهاز من أجهزة الدولة هو المخابرات. أما إيمانه بالدولة نفسها، بالثورة، فلم يتطرق إليه الشك أو الفساد، وتصور أنها- المخابرات- تمارس أساليبها في خفاء من من المسئولين… وفي أعقاب النكسة اتجه إسماعيل لأول مرة إلى دراسة تاريخ مصر الحديث. (ص، 57).
قال له خالد صفوان بعد أن اتفقا أنه لن يسكت عن شرّ يتهدّد الثورة، هذا ما نطالبك به وستذهب إلى زميل يهديك سواء السبيل، ولكنني أحب أذكرك بأننا قوة تملك كل شيء ولا تخفى عنها خافية، تكافئ الصديق، وتنكل بالخائن! (ص، 63).
الموت تعذيباً
ويرتبط حلمي حمادة الشيوعي بإسماعيل دياب، بحكم الزمالة في الجامعة، والرفقة في الاعتقال، ولكنه يبدو أكثر إخلاصا لثوريته، وإصرارا على مواجهة الطغاة، وكفره بالنظام، وهو ما يؤدي به إلى الموت بسبب التعذيب في المعتقل! إنه شيوعي صاحب مبدأ وليس انتهازيا مثل بقية الشيوعيين أو كما يقال عنهم، بينما ينهار إسماعيل الشيخ وزينب دياب، ويتحولان إلى مرشدين للأمن، ويبلغان عنه! وحلمي فتى رشيق ووسيم أيضا وذو مناقشات عصبية (ص، 14)، وأول من تحمس لمشروع كتابة مذكرات قرنفلة التي تضم أسرار رجال العهد الماضي والحاضر، وهي أسرار تقترب من الفضائح أو هي كذلك، وترى قرنفلة أنه يمكن نشر الجزء الأول دون متاعب، (ص، 16). ويصف الراوي حلمي حمادة بأنه نظيف بقدر ما هو ذكي، ليس من النوع الذي يبيع نفسه..(ص، 24). ولكن زين العابدين يصفه قائلا: “لا يغرنك منظره.. إنه بر مجي عصره”، (ص، 25). بيد أن حلمي حمادة في سخريته من أحوال القوم يبدو صاحب نظرة عميقة:
“إننا نلجأ عند العجز إلى التشبيه والاستعارة….” (ص، 66).
الاتهام بالرجعية
وتشبه نشأة زينب دياب نشأة اسماعيل دياب، فقد نمت وكبرت في بيئته وفي ربعه، أبوها بياع لحمة رأس وأمها في الأصل غسالة ثم صارت دلّالة بعد كدح طويل ، ولها أخ سباك وأختان متزوجتان، وكان نجاحها في المدرسة أمرا غير متوقع، بقدر ما كان مثيرا للعجب والمتاعب. ولم يجدوا بأسا من تركها تلهو بتلك اللعبة حتى يجيء ابن الحلال. الأب يكدح نهاره نظير قروش قليلة ما يلبث أن يبدّدها في خمّارة البوظة، ويختم سعيه بمشاجرة عائلية عنيفة. ورثت زينب وسامته. وفي الثانوية العامة طلب يدها تاجر دجاج أرمل يعد من أغنياء الحي فرفضته، ولم تبالي أن تتهم بالرجعية. (ص74-75). أحبت إسماعيل، وانتظرا أن يتوجا حبهما بالزواج، ولكنها اعتقلت معه، وفقدت شرفها في المعتقل على يد زبانية خالد صفوان:
” واكتشفنا وجود قوة مخيفة تعمل في استقلال كلي عن القانون والقيم الإنسانية”(ص، 78). وفي الزنزانة أهينت وعُذبت للذل الذي يعيشه إسماعيل في السجن وخاصة حين رأته أمام خالد صفوان رئيس الجهاز، وخالد هذا هو الذي استدعاها ليشاهد مشهدا مثيرا وممتعا وخارقا للمألوف أمام عينيه وهو “الاغتصاب” من جانب زبانيته… (ص80- 81).
ثبوت البراءة!
وهذا المشهد هو الذي جعل للفيلم المأخوذ عن الرواية ضجة كبرى في أرجاء البلاد، وأثار سخطا عاما وغضبا غير مسبوق على السلطة. وبعد أسابيع كما ورد في الرواية استدعاها خالد صفوان، وكان هادئا كعادته، وقال لها باقتضاب:
– لقد ثبتت براءتكم! (ص، 82).
وصارت زينب بعد اغتصابها مرشدة للأمن مثل اسماعيل، وطولبت بالسرّية المطلقة” ولأول مرة في حياتي وجدتني أحتقر نفسي حتى الموت”، (ص، 84)، وقالت للراوي:
– إياك وأن تدافع عني . إن الدفاع عن الهوان من الهوان. ص، 85
لقد حولتها الثورة من شريفة إلى ساقطة!
وتمثل شخصية خالد صفوان نموذج رجل الأمن فاقد الضمير والشعور الإنساني، بما ارتكب من جرائم بشعة في حق الأبرياء والمعارضين، وبينما يتحاور شيوخ المقهى عن الواقع والمستقبل، وينهمكون في طرح الحلول والإجابات عن الحرب والصلح بعد الهزيمة المذلة، يأتي رجل غريب ذات مساء يتأبظ ذراع شاب، ويجلس على مقربة من المدخل، ويقول للشاب بصوت آمر:
– سأنتظرك هنا حتى تشتري الأدوية ، أسرع….(ص،98).
شاحب اللون
يصفه الراوي بأنه متوسط القامة، له وجه مستطيل، وحاجبين غزيرين عريضين، وعينين واضحتين غائرتين، وجبهة بارزة، وكان شاحب اللون كأنه مريض أو في دور النقاهة..(ص، 99).
بعد الهزيمة المذلة، قضى ثلاث سنوات سجنا، ولكن أمواله مصادرة، وانتقل خبر وجوده بالمقهى من فرد إلى فرد حتى ساد الصمت وتناوبته الأبصار.. وتنبه إلى التطلعات المبهمة من حوله كمن يستيقظ من النوم، وندّ عنه صوت ضعيف يقول:
– هاللو!
ونظر إلى الوجوه التي يعرفها وقال:
– وقد يلتقي الشتيتان..!
وحين عبرت قرنفلة عن حزنها وأكدت أسوأ الذكريات التي أشار إليها في حديثه، وجه إليها الخطاب قائلا: لست الحزينة وحدك اليوم، ثم بصوت أقوى: كلنا مجرمون وكلنا ضحايا، فقالت بحدة: المجرم شخص والضحية شخص آخر، فأصر على رأيه:
– كلنا مجرمون وكلنا ضحايا، من لم يفهم ذلك فلن يفهم شيئا على الإطلاق.. (ص،100)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) أستاذ الأدب والنقد