يلاحظ المتابع لتصرفات وأقوال الرئيس الأميركي دونالد ترمب أن الاتزان والتوازن يغيبان في كثير من الأحيان عن طروحاته ومقارباته. ويبدو أن هناك تباعدا بينه وبين التركيز إلى درجة أن الهوجائية تطغى على سياساته أحيانا، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي.
إن ترمب أشبه ما يكون بلاعب جمباز غير محترف ويقفز بدون إطار أو رؤية. هو يقفز من فكرة إلى أخرى بدون انسياب منطقي أو ترابط ذهني، الأمر الذي يوقعه في تناقضات وعجز عن اتخاذ القرار. وفي قفزاته الفجائية وغير المتوقعة، يظن المتابع أن ترمب يقع أسير نزواته ورغباته الذاتية، دون أن يملك قدرة على التحكم في علمية ومهنية اتخاذ القرار.
ويبدو أن تخيلاته وربما أحلامه توجّه العديد من تغريداته وتصريحاته أمام وسائل الإعلام. وهو بذلك ينتقص كثيرا من مكانة الولايات المتحدة عالميا، ويؤثر سلبا على تماسكها الاجتماعي.
غياب الرؤية
من الصعب أن يتكهن المتابع بما يمكن أن يصرح به ترمب أو يقوم به غدا، لأن ما ينطق به الآن قد يقول نقيضه بعد ساعة، وما يتمسك به من مبدأ الآن، لن يجد مكانا في سياساته بعد غد. ترمب ليس صاحب نظرية سياسية يمكن أن يبني عليها السياسيون العقلاء والمفكرون والمحللون، وأن يتوقعوا وفقها القادمَ من سياساته.
من الممكن أن يتحدث ترمب الآن عن أهمية الوحدة الوطنية بين الحزبين الأميركيين الكبيرين، لكنه لا يصبر طويلا حتى يثير التعصب الحزبي، ويؤدي إلى حالة من الاستقطاب داخل أميركا. وهو يقف ضد امتلاك كوريا الشمالية للأسلحة النووية، لكنه -في ذات الوقت- يقول إن على أميركا أن تزيد قدراتها النووية. إنه يرضى لنفسه ما لا يرضاه لغيره.
والمقصود أنه لا إجابةَ للسؤال عن كيفية اتخاذ القرار الأميركي في عهد ترمب. وتقديري أنه لولا أن مستشاريه ووزارة الخارجية الأميركية يكبحون جماحه، لشط كثيرا في تطاوله على الأميركيين وغير الأميركيين، ولرفع مستوى التوتر العالمي بصورة حادة.
ألقى ترمب خطابه السنوي -الذي اعتادته مؤسسة الرئاسة الأميركية- دون أن يقدم رؤية لوضع العالم أو وضع الداخل الأميركي، وفي هذا ما يشير إلى استمرار حالة التخبط التي تعاني منها رئاسته. واستمرار هذه الحالة سيكون ذا تأثير سلبي على المستوى العالمي.
رفع ترمب في حملته الانتخابية شعار “أميركا أولاً”، ولم يكن هو الأول في العالم في رفع مثل هذا الشعار، إذ سبقه عرب كثر في التباهي به. وهو ما زال يردده في لقاءاته وكلماته في المؤتمرات العالمية.
هذا شعار أناني في الدرجة الأولى وعنصري في ذات الوقت. كل شخص وكل دولة وكل حزب يحرص على مصالحه ويفضل الخير لنفسه أولا، لكن رفع الشعار بهذه الصلافة يشكل استفزازا للمستمعين، وتنبيها لهم بأن يحرصوا على تحقيق المزيد من مصالحهم الذاتية حتى ولو كان ذلك على حساب القيم الأخلاقية الكونية والعالمية.
الشعار يتخطى عتبة المبادئ والقيم التي يمكن أن تشكل منظومة قيمية عالمية مقننة بقرارات من الأمم المتحدة. وإذا تناقض الشعار مع المصلحة العالمية؛ فإن المتمسك به يفضله على مصالح الآخرين.
فمثلا، استهلك العالم جهودا كبيرة في صياغة وتثبيت اتفاقية المناخ، وجاء ترمب لينسحب منها وفقا لقناعة ذاتية بأنها ليست في صالح الولايات المتحدة، وبهذا يعرّض سلامة العالم وأمنه البيئي للخطر.
وقرر ترمب أن يخفّض مساهمة أميركا في تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، بناءً على تقييم يفيد بأن الفلسطينيين -الذين يستفيدون من التمويل- لا يحترمون أميركا، وهو لم يقدر جيدا ماذا يمكن أن يترتب على ضائقة غذائية وصحية وتعليمية تصيب الفلسطينيين في المخيمات.
إن إجراءات من هذا القبيل تؤسس لردود أفعال يمكن أن تلحق أضرارا كبيرة بالولايات المتحدة، خاصة أنه استثار الأعناق الفلسطينية في قراره بشأن القدس.
منطق الهيمنة
إن القائد الحق هو الذي يخص نفسه بعد أن يخص الناس جميعا، وهو لا يستحوذ على المقدرات ولا يبقي للآخرين سوى الفتات. أميركا تكرر -على ألسنة العديد من مسؤوليها السابقين واللاحقين- أنها قائدة العالم، وهذا قول غير صحيح لأن أميركا لا تملك مقومات القيادة وإنما تملك مقومات الهيمنة.
أميركا قوية عسكريا وتملك المال الوفير، وهي بذلك تملك إمكانات الضغط على دول كثيرة لكي تقوّم مسارها وفق الإرادة الأميركية، وتملك مقومات الإغراء. هي دولة هيمنة وليست دولة عدالة أو سمو أخلاقي، وهي تتغنى بنظامها القيمي الأخلاقي، ولو كان هذا التغني مبررا لما انتخب الشعب الأميركي دونالد ترمب.
الناخب الأميركي يورّط العالم بين الحين والآخر برئيس محدود القدرات من الناحيتين النفسية والعقلية، ويتمتع بإمكانات خطابات فهلوية. وترمب يهدد الآن بوقف المساعدات الأميركية المقدرة بحوالي عشرين مليار دولار سنويا لدول عديدة عبر العالم.
أين هي مسألة التعاون الدولي في خطاب ترمب الأخير؟ يبدو أن ترمب لا يعرف عن التعاون الدولي ولا عن حل المشاكل بالحسنى. لم يتحدث عن تحسين العلاقات مع الدول العظمى ولا مع دول مجموعة “البريكس”.
ولم يتحدث عن إنجازات عامه الأول في الحكم بخصوص الحد من التسلح، وتقليص أعداد الحروب التي تقوم بها أميركا أو تمولها نقودا وتسليحا، ولا عن التعاون في مجالات الفضاء وتقليص نسب التلوث وتحسين ظروف البيئة العالمية، ولا عن المحافظة على التراث العالمي.
وعندما تحدث عن روسيا والصين وصفهما بالمنافسين الخصمين. هما منافستان، لكنهما ليستا بالضرورة خصمين. لقد بنى خصومة في الهواء ربما يبني عليها شيئا ينهار على رأسه.
تحدث ترمب عما دأب رؤساء أميركا على تسميتها بالدول المارقة مثل إيران وكوريا الشمالية، أي الدول التي عجزت أميركا عن تطويعها. ترمب توعد كوريا الشمالية دون أن يذكر صراحة ماذا يريد أن يفعل، لكنه سبق أن قال إن الزر على مكتبه أكبر من الزر الموجود على مكتب رئيس كوريا الشمالية، وكان يعني بذلك زر القذائف النووية.
ولا يبدو أن أمامه غير استعمال السلاح النووي الذي سيرتد إلى أميركا وفق تصريحات الكوريين. وعقلاء الدول النووية لا يستعملون النووي ضد نوويين آخرين لأنه لا رابحَ في الحروب النووية. وكوريا الشمالية يمكن أن تستخدم أسلحتها النووية ضد اليابان وضد كوريا الجنوبية، فتصيب العالم بالذهول والاقتصاد العالمي بخسائر هائلة، دون أن ينجو الاقتصاد الأميركي.
عمل ترمب -منذ استلامه دفة الإدارة الأميركية- على تدمير التعاون الدولي. فقد انسحب من اتفاقية المناخ الذي تخربه أميركا بالدرجة الأولى، وهذا هو المعنى الدقيق لشعار أميركا أولاً.
إن احترام اتفاقية المناخ تكلف الشركات الأميركية الكثير من المال، وإذا كانت تلك أعلى من تكاليف تلويث الأجواء والمياه فإن شعار أميركا أولاً يضرب بالمصلحة العالمية عرض الحائط.
انسحب ترمب من اتفاقية المحيط الهادئ الاقتصادية، وأصاب البحث عن حلول سلمية للصراع العربي الصهيوني بمقتل، وعرقل الحلول السلمية في سوريا، ودفع بالأكراد والأتراك إلى المزيد من الاقتتال على الأرض السورية.
سياسة الاستفزاز
بتصريحاته المستفزة، دفع كوريا الشمالية إلى تطوير قدراتها الصاروخية لتكون قادرة على ضرب العمق الأميركي. وهو ما زال يعمل بجد على إلغاء الاتفاق النووي مع إيران، الذي هو اتفاق أممي مصادَق عليه من قبل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
هذا اتفاق تم التوصل إليه بعد جهد جهيد من قبل دول مجموعة “خمسة +1″، ويريد ترمب أن ينسفه في النهاية ظنا منه أن إيران لقمة سائغة يمكن السيطرة عليها بسهولة.
اقتصاديا، يريد ترمب العودة إلى مبدأ الحمائية الذي طالما عملت أميركا على مواجهته، وبذلك هو يستثير الصين واليابان وكل الدول التي تصدر بضائع لأميركا، ويمكن أن تتخذ إجراءات مضادة ضد المنتجات الأميركية.
وهو يستثير شعوب وحكومات دول أميركا اللاتينية بمشاريع قوانينه الخاصة بالمهجرين الحالمين وبشأن الجدار مع المكسيك، علما بأن المهاجرين “الإسبنيول” يشكلون دعامة قوية للاقتصاد الأميركي.
ويصر ترمب على صداقته المتينة مع الكيان الصهيوني الذي يعد أسوأ صديق يمكن أن تسعى دولة عاقلة إلى نيل صداقته. الكيان الصهيوني دولة عنصرية احتلالية إرهابية يهودية، تشرد ملايين الفلسطينيين وتذيقهم مرّ العذاب على مدى عشرات السنوات، وهو لا يرى فيها إلا الحميمية والحضارة المتطورة والتقدمية.
هو فقط يرى في الفلسطينيين إرهابيين ولا يرى في الاحتلال والتشريد والقتل والتعذيب والاعتقال وهدم البيوت إرهابا. وكرر في خطابه الأخير عن القدس ما أثلج صدور الصهاينة والأميركيين المتصهينين وبالتأكيد العرب المتصهينين، عندما قال إن نقل السفارة إلى القدس عمل من أعمال السيادة.
لكن ترمب لم يقل: سيادة مَن؟ هل هي سيادة أميركا في اتخاذ القرار أم سيادة الصهاينة في تجاهل القرارات الأممية بدعم أميركي؟ وقد استثار الفلسطينيين بأمرين هامين وهما: تقليص المساعدات التي تقدمها أميركا لوكالة الأونروا، وتقليص الدعم للسلطة الفلسطينية. إنه الشخص الباحث عن خصومات وعداوات.
ترمب يعادي التعاون الدولي، وهو يشكّل خطرا على الأمن الدولي، والمطلوب من أمم العالم التكافل والتضامن في مواجهة هذا الخطر، حتى لا يتحول إلى حرب لا تُحمد عقباها. وهناك من بين الأميركيين من يتكهن بأن ترمب لن ينهي مدة حكمه بدون دمار عالمي.
ترمب كذب صراحة أمام العالم عندما قال إن التحالف بقيادة أميركا هو الذي قضى على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بنسبة 100% تقريبا في العراق وسوريا. وهو أنكر بذلك دور آلاف الشهداء العراقيين والسوريين الذين سقطوا دفاعا عن أوطانهم.
لم يذكر ترمب دور أميركا في صناعة الإرهاب العالمي، ولم يتحدث عن دعمها للكيان الصهيوني الذي يشكل رأس حربة الإرهاب العالمي. لقد عمل ترمب على تزوير الحقائق، ولا أظن أن أحدا في العالم -سوى بعض الصهاينة وبعض العرب- قد اشترى كلامه الذي كان مثيرا للضحك والاستهزاء.
وإذا كانت أميركا تقاتل الإرهاب؛ فلا يوجد أحد في العالم لا يقاتله. أميركا نصير الإرهاب، وكم من سنة دعمت الحكام العرب الإرهابيين في مواجهة شعوبهم، نصرةً للكيان الصهيوني الذي يشكل أول مصدر للإرهاب في العالم؟
——–
المصدر: الجزيرة