إن أول مقومات بقاء الكون هو بقاء آثار الرسل وعدم انطماسها، وإنما تنطمس آثار الرسل وتنمحي بتعطيل الوسيلة الضامنة لبقائها وهم الأفراد المصلحون، الذين وصفهم رب العزة بقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117).
عبدالله يوسف حمد بودي.. الأثر الطيب
رجل حفر اسمه بمداد من ذهب وسط قلوب الجميع، فما كاد يعلن عن وفاته حتى تبارت الأقلام بمداد من قلوب المحبين الذين تعاملوا مع العم عبدالله بودي يسطرون عن خصاله الحميدة، وأثره الطيب الذي تركه في نفوس وقلوب الجميع.
ربما تصادف ميلاد الدعوة مع ميلاد العم عبدالله بودي الذي لم يكن يدرك في يوم من الأيام أنه سيكون أحد رجالاتها، حيث ولد عام 1928م في منطقة الوسط قرب ساحة بودي مقابل قصر السيف بالكويت، بالقرب من موقع مسجد الحداد حالياً، لأسرة كريمة حرصت على تربيته تربية طيبة فالتحق بالمدرسة المباركية وزامل فيها عدداً من رجالات الكويت، منهم المغفور له الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد، ثم انتقل إلى الهند للدراسة وتعلم اللغة الإنجليزية.
وحينما عاد إلى الكويت اهتم بالعمل التجاري بصحبة شقيقه محمد؛ حيث كانت باباً في الانطلاق إلى المجال الخيري والبراعة فيه.
وما أن توافق بعض كرام الكويت على العمل الدعوي وفق منهج جماعة الإخوان المسلمين، حتى سارع العم عبدالله بودي وأخوه محمد إلى الانضمام إلى هذه الكوكبة برئاسة العم يوسف بن عيسى، وعبدالعزيز المطوع؛ فتأسست جمعية الإرشاد الإسلامي في الأول من رمضان عام 1371هـ/ 24 مايو 1952م، ومع تطور الأحداث وتدافعها اضطروا إلى تغيير الجمعية إلى جمعية الإصلاح الاجتماعي التي أُشهرت في 4 أغسطس 1963م، حيث شارك العم بودي بالمشاركة في تأسيسها.
انطلق العم بودي يخوض بحار العمل الخيري في الكويت وأفريقيا وغيرها، متفقداً الفقراء والمساكين والضعفاء ليتولاهم بحسن رعايته، حيث ترك العديد من المراكز الإسلامية والمساجد الدعوية، والجمعيات الخيرية.
ومن المواقف أنه صلى الظهر في مسجد بأفريقيا مع العم عبدالرحمن السميط، وأشاد بالمسجد والمركز الإسلامي، فأخبره السميط أنه المسجد والمركز الذي تبرع بثمنه، فما كان من العم بودي إلا أن بكى لما رآه من فضل الله.
اتصف –كما وصفه البعض- بالعاقل، الحكيم، المتفتح، يفهم أين هو، ويفهم ماذا يريد أن يقول، وماذا يريد أن يفعل، حينما تجالسه فأنت أمام مخزون من العلم، مخزون من الحكمة، مخزون من الأخلاق الأصيلة.
وفي يوم الجمعة 17 شعبان 1436هـ/ 5 يونيو 2015م، رحل العم عبدالله بودي مخلفاً أثراً حميداً في نفوس الجميع(1).
جابر رزق.. الصحافة الإسلامية
في قرية كرداسة بمحافظة الجيزة -التي شهدت كثيراً من الأحداث الجسام- ولد جابر رزق الفولي، في 2 أكتوبر 1936م، لأسرة متوسطة الحال، حيث التحق بمراحل التعليم المختلفة حتى حصل على الثانوية بمدرسة السعيدية بالجيزة ثم عمل مدرساً للغة الفرنسية قبل أن يلتحق بكلية الآداب جامعة القاهرة ليتخرج فيها من قسم الصحافة.
بدأ حياته الصحفية بالعمل في مجلة “الإذاعة والتلفزيون” الصادرة عن وزارة الإعلام المصرية عام 1962م، ثم صار مديراً لتحرير مجلة “الدعوة” عام 1976م، فأعطاها اللمسة الصحفية الساخنة، بمقالاته الحية وتحقيقاته وحواراته وعناوينه الجذابة، ونجحت المجلة، قبل أن يتولى رئاسة تحرير مجلة “لواء الإسلام” الناطقة بلسان الإخوان المسلمين عام 1986م، وقد تولى مسؤولية تفعيل شباب الصحفيين المنتمين للإخوان أو القريبين منهم في نقابة الصحفيين التي كانت النواة لتكوين جيل من الصحفيين الإسلاميين لدخول النقابة عام 1985م.
تعرف جابر رزق على جماعة الإخوان منذ صغره في بداية الخمسينيات التي لم يعتقل فيها لصغر سنه وعدم معرفتهم به، غير أنه اعتقل في أحداث عام 1965م وقدم للمحاكمة التي حكمت عليه بـ15 عاماً، قضى منها 9 سنوات في السجن، وأفرج عنه سنة 1974م ثم تم اعتقاله في أحداث عام 1981م.
يعد من أنشط الشباب الذين عملوا بجانب الأستاذ عمر التلمساني، حيث عمل مستشاراً إعلامياً له ومسؤولاً عن الملف الإعلامي للإخوان المسلمين وعضواً بمكتب الإرشاد، كما اهتم بتربية الشباب التربية الصحفية الإسلامية، وكان قلمه يجوب غمار العديد من الصحف المصرية والعربية كمجلة “الاعتصام”، وصحيفة “الشعب”، وصحيفة “النور”، ومجلة “الأمة” القطرية، ومجلة “الإصلاح” الإماراتية، ومجلة “المجتمع” الكويتية، بالإضافة لاحتواء المكتبات على العديد من المؤلفات المهمة التي أرّخت لكثير من الأحداث في عهد عبدالناصر، مثل: “الإخوان في سجون ناصر”، “مذبحة الإخوان المسلمين في ليمان طرة”، “الدولة والسياسة في فكر حسن البنا”، “الأسرار الحقيقية لاغتيال الإمام الشهيد حسن البنا”، “حسن الهضيبي الإمام الممتحن”.. وغيرها.
وصفه الأستاذ أنور الجندي بقوله: “رحم الله ذلك الوجه السَّني الذي كان يشع دائماً بالإيمان والإخلاص والسماحة التي علمها الإسلام لأبنائه وأهله، فقد كان جابر رزق علامة مضيئة من علامات الدعوة الإسلامية في جيل جاء بعد جيل الرواد، ولقد استطاع أن يمتلك قلماً نقياً طاهراً”.
وبعدما حضر مؤتمراً بتركيا عاد فأصابه المرض حتى سافر أمريكا للعلاج وهناك توفاه الله يوم الإثنين 6 ذو القعدة 1408هـ/ الموافق 20 يونيو 1988م، وعاد ليدفن بجوار الأستاذ عمر التلمساني(2).
هاشم الخزندار.. رحلة مجاهد
في عائلة الخزندار التي نشأت في بلاد الرافدين ونزحت لفلسطين مع المجاهد عماد الدين زنكي واستقرت بها، وعمل الشيخ عبداللطيف –جد هاشم- مفتياً وإماماً للمسجد الأقصى لمدة قاربت 15 عاماً، وبعد وفاته قام الشيخ نعمان –والد هاشم- مقام والده، في هذه العائلة ولد الشيخ هاشم نعمان عبداللطيف محمد إبراهيم علي الخزندار الطويل في مدينة غزة عام 1334هـ/ 1915م، حيث أتم حفظ القرآن وعمره 14 عاماً، وتخرج في مدرسة الرشيدية قبل أن ينتقل للقاهرة للالتحاق بالأزهر الشريف عام 1934م.
تفاعل الشيخ مع القضايا الوطنية، وكان منزله بالقاهرة كملتقى الوطنين الفلسطينيين والمناهضين للمشروع الصهيوني، حتى إنه شارك في مظاهرات بالقاهرة عام 1941م تأييداً لثورة رشيد كيلاني في العراق، فقبض عليه بسجن الأجانب في باب الخلق، كما كانت علاقته طيبه بالشيخ أمين الحسيني، وعبدالقادر الحسيني.
كانت بداية معرفته بالشيخ حسن البنا حينما سلمه رسالة كان يحملها معه من الشيخ عز الدين القسام يطلب منه مساعدة الإخوان بالمال والسلاح، ومن هذا الوقت تعلق بالشيخ البنا وأحب دعوة الإخوان والتحق بها.
وحينما عاد لغزة شارك شعبة غزة نشاطها، فأقام مع إخوانه معسكراً لتدريب الشباب الفلسطيني، وكان عدد المتطوعون 460 متطوعاً أغلبهم من النجادة والفتوة، حتى إن المجاهدين –وعلى رأسهم الشيخ محمد فرغلي– كانوا يستعينون به في حرب عام 1948م لحل مشكلات الذخيرة وصناعة الأسلحة اليدوية وتصليح الأسلحة وتطويرها في ورش غزة، وحينما نظم عدد من إخوان غزة قوافل التموين إلى الثوار المحاصرين في الفالوجة شارك معهم في الوصول بالمؤن للمحاصرين.
في عام 1954م أسس مع إخوان غزة صحيفة وكان رئيس تحريرها د. صالح مطر أبو كميل، وظلت تنطق باسمهم حتى توقفت عام 1961م، قبل أن يعتقل الشيخ هاشم في محنة عام 1965م بمصر ليفرج عنه بعد قليل لتعتقله السلطات “الإسرائيلية”.
اشتدت به المحن في مواجهة الصهاينة حيث استشهد ابنه البكر عام 1970م كما اُعتقل أبناؤه الثلاثة عام 1974م لفترة طويلة، وهُدم جزء كبير من منزله ومُنع من ترميمه، كما تعرض لاضطهاد الصهاينة بسبب رفضه تحويل مسجد حسن بيك الكبير في يافا لكازينو لوقوعه في المنطقة السياحية.
ظل مخلصاً لوطنه لم يردعه الاضطهاد الذي يمارسه ضده الصهاينة ولا التهديدات التي يتلقاها من أعوانهم من الفلسطينيين، وظل كذلك حتى استشهد على يد إحدى المجموعات العسكرية الفلسطينية؛ لتأييده السادات في عملية السلام، وهو خارج من صلاة الفجر من المسجد العمري الكبير حيث طعن عدة طعنات قاتله أدت إلى مقتله في يوم الجمعة 5 رجب 1399هـ/ 1 يونيو 1979م، وخرجت غزة كلها في مشهد لم تشهده المدينة لتشيع جثمان الشيخ الشهيد(3).
_____________________________
(1) الأنباء، القبس، الراي، الوسط، الشاهد، يونيو 2015م، شعبان 1436هـ.
(2) عبدالله العقيل: من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة، جـ1، دار البشير، طنطا مصر، طـ8، 2008م، صـ179.
(3) هاشم الخزندار درب المجاهدين: موقع ويكيبيديا الإخوان المسلمون،
(*) باحث في التاريخ الحديث.