شهدت القاهرة، في سبتمبر 1994م، انعقاد مؤتمر السكان والتنمية، وهو حلقة ضمن سلسلة من المؤتمرات ذات الطابع العالمي التي عقدت في العالم الإسلامي، وهو مؤتمر يعيد صياغة مفهوم الأسرة من جديد، لتقفز خارج الإطار التوصيفي الذي حدد التشريع الرباني ملامحه.
الزيادة السكانية والتنمية
من أخطر القضايا التي طرحها المؤتمر، الربط بين زيادة عدد السكان والفقر واستحالة التنمية، والتأكيد على أن الحد من النسل هو الطريق الأوحد لتحقيق هذه التنمية.
تأسيساً على ذلك، وضع المؤتمر الحلول التي ارتآها لمواجهة هذه المشكلة، وذلك عن طريق التثقيف الجنسي وتشجيع الإباحية الجنسية للمراهقين وعدم انتهاك هذه الخصوصيات من قبل الأسرة، وتجاوز تعريف الأسرة المعهود ليشمل العلاقات خارج إطار الزواج ومنها المثلية الجنسية، ورعاية الإجهاض أو إسقاط الحمل غير المرغوب فيه، بحصوله على الصفة القانونية المشروعة، وهذه مسائل من شأنها أن تحد من النسل البشري.
هذا القلق الغربي من تزايد عدد السكان في دول العالم الثالث ليس وليد اللحظة، فقد اعتبرته الولايات المتحدة في القرن الماضي تهديداً للمصالح الأمريكية «وثمة وثيقة أعدها هنري كسينجر عام 1974م حملت رقم (200)، عنوانها «تأثيرات التزايد السكاني في العالم على أمن الولايات المتحدة ومصالحها الحيوية فيما وراء البحار»، وفي الوثيقة طالب بفرض سياسة تحديد النسل في 13 دولة من العالم الثالث، 90% من هذه الدول إسلامية»(1).
لذا، فإن مثل هذا المؤتمر لا نبالغ إن قلنا: إنه حلقة من حلقات التدافع الحضاري، ويأتي في سياق الاستهداف الغربي للأمة الإسلامية، حتى إن أوربا تعيش حالة من الهلع إزاء الانكماش السكاني الذي يداهمها مقابل ازدياد عدد السكان في المنطقة العربية والدول الإسلامية.
خرافة الندرة!
تبلور الموقف الغربي من ازدياد عدد السكان في الدول النامية ودول العالم الثالث التي يمثل المسلمون أغلبها، في نظرية «أخلاقيات قارب النجاة» لعالِم الإحصاء والأحياء الأمريكي جاريت هاردن، وفكرتها المحورية أن الأرض الآن قارب نجاة ليس فيه من الطعام ما يكفي الجميع، ومن المنطقي أن يذهب إلى من يتمتعون بأكبر فرصة في النجاة، وألا تخاطر بسلامة الجميع بإحضار ركاب جدد.
وهذه النظرية لها صدى واسع في الغرب، ومنها استُلهم مصطلح المليار الذهبي، وهو تصفية الجنس البشري إلى مليار نسمة، وهي (أي نظرية أخلاقيات قارب النجاة) على خلوّها من البعد القيمي والأخلاقي، عارية تماماً عن الصحة، وتعتمد على الادعاءات المضللة في ربط الجوع بزيادة النسل، وما هي إلا دعاية تنطلق من الطبيعة الإمبريالية لهذه الدول كسلاح للسيطرة على الشعوب، وليس أدل على خطأ الربط بين الجوع والنسل وأنها لا تعدو أن تكون غرضاً استعمارياً، ما حدث إبان الاحتلال البريطاني للهند، حين أصابت منطقة البنغال الهندية مجاعة كبيرة في الأربعينيات، أودت بحياة ما يصل إلى مليون ونصف مليون، في وقت كانت الآلاف من أطنان الأرز تتدفق خارج الهند لصالح المحتل البريطاني.
فرانسيس مورلابيه، باحثة ومؤلفة أمريكية في مجال سياسة الغذاء والديمقراطية، دحضت خرافة ندرة الموارد، وأثبتت بالإحصاءات أن العالم به ما يكفي للبشر جميعاً(2).
فعلى سبيل المثال: ينتج العالم يومياً من الحبوب حوالي رطلين لكل إنسان؛ أي أكثر ما يوازي 3 آلاف سُعر حراري وبروتين وفير، وهذا من الحبوب وحدها، فما بالنا بما يمكن أن يتحصل عليه الإنسان من أطعمة أخرى مغذية كالخضراوات والفواكه واللحوم.
ويدل على كذب الادعاء بندرة الموارد، أن مساحات شاسعة على كوكب الأرض لم يتم استخدامها بعد في الزراعة، بل تشير بعض الدراسات إلى أن ما يزرع في الأراضي الصالحة للزراعة في العالم لا يتجاوز نصف المساحة.
لكنها مشكلة احتكار، وسيطرة قلة على ثروات الأكثرية، ومن المثير للسخرية أنه في عام 1973م، قامت 36 دولة من الدول الأفقر في العالم -والمصنفة من قبل الأمم المتحدة على أنها الدول الأشد تضرراً من تضخم أسعار الغذاء العالمي- بتصدير سلع زراعية إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
البشر مورد لا عقبة تنموية
من الإشكاليات التي تواجه مؤتمر السكان، هو الإيحاء بأن كثرة الإنجاب في دول العالم الثالث سببها الجهل، ولذلك يزعم القائمون عليه بأنهم يهدفون إلى توعية تلك الشعوب بأخطار كثرة النسل وارتباطه بانعدام التنمية، وهذا تضليل وتدليس، فمعظم شعوب العالم مجتمعات ريفية، تهدف العائلات فيها من كثرة الإنجاب إلى توفير أيادٍ عاملة من الأسرة للمساعدة على شؤون المعيشة.
فالبشر ثروة لا عقبة، وليس أدل على ذلك من أن الصين إحدى أبرز القوى الاقتصادية الضخمة في العالم، قد اقترب تعدادها السكاني العام الماضي من المليار ونصف المليار نسمة، فهي تستثمر هذه الموارد البشرية.
اليابان مثلاً في تقدمها وانتعاشها وقوتها الاقتصادية والتكنولوجية، يعيش فيها حوالي 122 مليون نسمة، على مساحة تقدر بـ378 كم2، وهي مساحة صغيرة بالنسبة لعدد السكان، فالمشكلة ليست كثرة السكان، إنما مشكلة سوء الاستثمار في هذه القدرة البشرية.
الخلاصة
مضامين مؤتمر السكان والتنمية تستخدم فزاعة خرافة الندرة؛ للعبث في بنية المجتمعات الإسلامية عن طريق هدم مؤسسة الأسرة، بإشاعة الحلول المضللة التي تقوض بنيان هذه الوحدة الاجتماعية، وهي تستمر في عقد مثل هذه المؤتمرات والضغط بها على الحكومات العربية والإسلامية لتفعيلها، وتعمل بدأبها واستمراريتها على تطبيع الشعوب مع أفكارها، حتى وإن تصاعدت نبرات الرفض.
________________________
(1) وثيقة مؤتمر السكان والتنمية رؤية شرعية، الحسيني سليمان جاد، ص68.
(2) ينظر: صناعة الجوع، فرانسيس مورلابيه وجوزيف كولينز، ص17-26.