شيوخ القرية أرادوا أن يكون اسم «إسلامبول» محطة لاستذكار الأيام الخوالي التي تربطهم بالدين الكامن في الصدور
شيوخ القرية أرادوا أن يكون اسم «إسلامبول» محطة لاستذكار الأيام الخوالي التي تربطهم بالدين الكامن في الصدور
وسائل الإعلام تصوِّر الأئمة القادمين من قرغيزستان وأوزبكستان وطاجيكستان إما متطرفين أو جهلة بأمور الدين والدنيا
«إسلامبول».. هي قرية تتارية تقع في غابات «التايجا» على بعد 180 كيلومتراً شمال مدينة تومسك بروسيا، تأسست في بداية القرن العشرين من قبل مستوطنين من ولاية قازان، جاؤوا بحثاً عن حياة أفضل.
السكان القدامى يقولون: إن المستوطنين الأوائل شكلوا قريتين هما قرية تابتان ونوركاي، ومع مرور الزمن والسنوات الطوال، قرر قادة الحزب في المقاطعة دمج القريتين فيما يسمى بـ«الكولخوز»؛ أي التعاضدية الزراعية الموحدة، ثم بناء على طلب من كبار السن تم تسميتها بـ«إسلامبول»؛ ما يعني باللغة التتارية «كن في الإسلام»، وبالتأكيد لم يكن من السهل تسميتها بهذا الاسم خاصة في تلك السنوات التي كان الحكم الشيوعي هو المسيطر على زمام الأمور، يومها كانت أسماء الكولخوز الأكثر شعبية هي «لينينسكي بوت» (الطريق اللينيني)، أو «بوت إليتش» (طريق إليتش نسبة لاسم أبي الزعيم لينين)، أو غيرها من الأسماء التي لها رمزيتها في الحكم الشيوعي آنذاك.
بين الماضي والحاضر
لقد حاول شيوخ القرية أن يكون الاسم الجديد محطة لاستذكار الأيام الخوالي التي تربطهم بالدين الكامن في الصدور، وذلك الحنين والشوق لتلك الربوع التي عاشوا فيها في صباهم، كانوا يبحثون في الاسم عن وطن مفقود ورغبة في أن يكون الجيل القادم مع الإسلام، وأن يبقى المسلمون في بيئة إسلامية داخل مجتمع غير مسلم، بل إلحادي حارب الأديان واعتبر الدين أفيوناً للشعوب، لقد كانت «إسلامبول» القرية التتارية في محافظة تومسك ترفع من خلال اسمها تاريخاً وحنيناً وحباً للدين الإسلامي، ظل كامناً في قلوب سكانها إلى أن فارقوا الحياة.
يقول الملا خليل مصطفين، إمام قرية «تشورنايا ريتشكا» ومن مواليد إسلامبول: «لقد تعلمنا القراءة والكتابة باللغة العربية في مرحلة الطفولة، أما الآن فللأسف الشديد، لم يبق في القرية رجال متفقهون وعلى دراية باللغة العربية وحروفها، لقد ذهب كل ذلك مع الزمن بوفاة أولئك الذين حملوا لنا ذلك التراث».
عندما تقلب الصور العائلية القديمة لفترة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، تقع عيناك على أولئك الأطفال الذين يجلسون وعلى رؤوسهم القلنسوة التتارية، التي كانت علامة على مد الجسور مع تقاليد وثقافة عاش عليها القدامى وتم الحفاظ عليها ونقلها إلى الأجيال القادمة.. يقول الملا خليل: «إنني أقوم برفقة الزوجة بزيارة جدتها، كما نقوم بزيارة المقبرة لقراءة الفاتحة والدعاء على أرواح الأقارب، ولأولئك المسنين الذين تركوا لنا قرية بهذا الاسم».
أجيال لا تعرف التاريخ
لكن يبدو، كما يلاحظ الزائر إلى القرية، أن دعوة الآباء والأجداد لم تصل بعد إلى الأولاد والأحفاد، فمازال الإسلام قائماً على بعض كبار السن من الأجداد والجدات، فمع انهيار الكولخوزات لم يعد في القرية عمل، فهجرها الشباب ولم يبقَ فيها غير المسنين والمرضى، لم يعد أحد يعرف ما سبب تسمية القرية بهذا الاسم؟ وما الدافع الذي دعا شيوخ القرية إلى تسميتها باسم له علاقة بالدين الإسلامي؟ لقد ضاع هذا التاريخ مع مر الأيام، بل إن أحد سكان القرية يقول ضاحكاً وهو يتحدث عن سبب التسمية: «لقد عاش ذات مرة في هذه الأجزاء من القرية رجل اسمه «إسلام»، ذات يوم مشى بجانب النهر مخموراً وسقط في المياه، فناداه أحدهم لينقذه: «إسلام.. إسلام!»، فكان الرد: «بول بول»، ثم غرق ومات؛ ولذلك تسمى قريتنا الإسلامبول».. هكذا تغيرت الأيام ومُحي التاريخ من عقول الأحفاد، أصبحت كلمة «إسلامبول» تذكر برجل مخمور وليس برجل كان وسيكون مع الإسلام.
قبل نحو عامين وصل إلى قرية إسلامبول مجموعة من المسلمين من مدينة تومسك، وكانت لديهم رغبة في فتح مسجد وإحياء التراث الديني في القرية الميتة، عرضوا على سكان القرية ترميم أحد البيوت المهجورة واستغلاله كمسجد، لكن المعارضين في القرية كانوا أكثر من المؤيدين وأغلق ملف المسجد إلى اليوم.. يقول نظام الدين جومايف، إمام المسجد الأحمر في تومسك: «لقد كان لدينا شخص اسمه «عكاش»، رجل أعمال من قومية القرغيز، وأحد سكان قرية كرفاشينو الواقعة على بعد 12 كيلومتراً عن قرية إسلامبول، كان «عكاش» على استعداد للذهاب لتعليم سكان القرية أساسيات الإسلام ودون مقابل، لكن السكان المحليين رفضوه»!
لم يكن أحد يفهم ما يدور في عقول سكان القرية، لكن جومايف يعتقد أن سبب عدم قبول السكان المحليين للإمام لأنه من قومية القرغيز وهم من قومية التتار، كما أنه مرتبط بغسيل الأدمغة الذي تقوم به وسائل الإعلام المغرضة، التي تقدم المسلمين القادمين من آسيا الوسطى بصورة سلبية؛ «فوسائل الإعلام تصوِّر الأئمة القادمين من قرغيزستان وأوزبكستان وطاجيكستان إما متطرفين، أو جهلة بأمور الدين والدنيا، هكذا يعتقد الكثيرون من سكان القرية».
ويتابع نظام الدين: «إن عكاش رجل محترم جداً، متزوج من مسلمة روسية، وله طفل، يريد أن يعلم الناس الإسلام على اعتبار أن ذلك واجب على كل مسلم، لكنه لم يجد التأييد من طرف السكان المحليين».
لم يعد الأمر مفهوماً إلى أي مدى سيتواصل هذا الأمر بهذه الصفة، «إن الأمر ليس سهلاً – يتابع الإمام – فالقرية لا يوجد بها من يعرف الأمور الأساسية للدين، ويزيد في الطين بلة، عندما تعلم أن أبناء وأحفاد مؤسسي إسلامبول يتزوجون على نحو متزايد من الروسيات الأرثوذكسيات من القرى الروسية المجاورة، وقد يرتدي بعضهم وبشكل متفاخر الصلبان الذهبية تاركين وراءهم تاريخ وجمال ونبل إيمان أجدادهم».
تاريخ توقف
قرية «إسلامبول» هي قرية كبيرة نوعاً ما، تمتد على طول أربعة كيلومترات، تقع بالقرب من بحيرة كبيرة حول الغابات الكثيفة، والتوت البري وغيرها من هدايا الطبيعة الخلابة ومع البيوت الكثيرة التي تعم أحياء القرية، إلا أن الحركة فيها تكاد تكون معدومة، وكأن التاريخ قد توقف فيها منذ زمن بعيد، المدرسة الوحيدة في القرية تم إغلاقها لعدم وجود أعداد من التلاميذ يكفي للعملية التعليمية، لقد كان ذلك بمثابة ناقوس خطر على القرية وما ينتظرها من مستقبل مظلم، قد تذهب فيه آمال وجهود الآباء والأجداد، الذين أسسوا مدينة أرادوها منارة يشع اسمها على القرى الروسية المجاورة، وليكون اسمها متطابقاً مع معناه الذي غرسوه فيه «كونوا في الإسلام»؛ أي دوروا أينما تدور رحى الإسلام فهو دينكم وحضارتكم وتاريخكم.>