بيت العائلة الواحد الكبير، تجتمع فيه الأسرة، وتتكامل فيه الإمكانات، وتتبادل الخبرات، وتتوحد فيه الكلمة!
أنا..
العهد القديم: بيت العائلة الواحد الكبير، تجتمع فيه الأسرة، وتتكامل فيه الإمكانات، وتتبادل الخبرات، وتتوحد فيه الكلمة!
المريض كثير عوّاده، والفقير كثير عائده، الكبير يُحترم، والصغير يُعطف عليه.
أتذكر بيت عائلة «خير الله»، الذي تزوجت فيه عمتي، وقد حلت عليه البركة، فلا جائع ولا مَدين ولا حزين ولا شارد، تكافل عجيب! والبيت كخلية نحل، الكُلّ يعمل، والكل يساعد، الكل ينام قرير العين.
أما ساعة الإفطار في رمضان، وما أدراك ما ساعة الإفطار.. قلوب متراصة قبل الجسوم، وأيادٍ مرفوعة للسماء بالدعاء، قبل أن تمتد للغذاء، وطعام بسيط وعشرات الأولاد حوله ومع ذلك يبقى منه! لمحات تاريخية لا أنساها نقشت في قلبي حباً للبيت الكبير.
العهد الجديد: فروع العائلة مبعثرة، هنا وهناك وأبعد من هناك! بيوت بعيدة وشقق صغيرة نائية لا يربطها رابط، ولا يجمعها رُبّان!
أمور كثيرة شخصية واجتماعية واقتصادية وأخلاقية، فرقت الأحباب، ومزقت شمل الأسرة، فيموت «المهاجر» ولا بواكي له، أو يفرح «البعيد» ولا مهنئ له! حتى مع قرب المساكن انقرضت ظاهرة تبادل الزيارات وصلة الأرحام والاجتماع على مائدة الإفطار!
أنظر يا زوجتي إلى النداء الرباني: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ “183” أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ”841″}(البقرة).. بصيغة الجمع دليلاً على وحدة الأمة في الوقت والفعل والمشاركة.
وما أجمل أن يكون شهر رمضان موسماً للمّ الشمل للأسرة الصغيرة، الوالدين والأولاد، وللأسرة الكبيرة الإخوة والأخوات والعمات والخالات والأعمام والأخوال.. وأولادهم وأحفادهم وأصهارهم.
وقد لا يجتمع هؤلاء جميعاً إلا في المناسبات النادرة كأفراح العرس مثلاً، وأليس في رمضان، وكذلك العيد ما يوازي هذا الفرح: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ “58”}(يونس).
ومن آلام ما يحدث أن تكون المسافات قريبة والقلوب بعيدة! كمن يسكن في نفس الشارع أو القرية ثم انقطع الحبل السري بينهما الذي كان يوماً ما متصلاً بنفس الرحم، رحم الأم! حينئذٍ لا بد أن يعمل رمضان عمله، ويظهر تأثيره على هذين القلبين أو القلب الثالث الذي يسعى للجمع بينهما.
وليتذكر هؤلاء ما جاء عن رسول الله “صلى الله عليه وسلم”: «إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب. قال: فهو لك».. قال رسول الله “صلى الله عليه وسلم”: «فاقرؤوا إن شئتم { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ “22”}»(البخاري
والصلة تكون بالزيارة، وكذلك بالمال أو الهدية أو الاتصال أو السؤال عنهم وتفقد أحوالهم، والتصدق على فقيرهم واحترام كبيرهم واستضافتهم وحسن استقبالهم ومشاركتهم في أفراحهم ومواساتهم في أحزانهم، وتكون بالدعاء لهم وسلامة الصدر نحوهم، وإجابة دعوتهم وعيادة مرضاهم، ودعوتهم إلى الهدى.
وإذا كانت هذه منزلتها وقدرها في الإسلام في كل وقت، فهي في رمضان شهر العبادات والرحمة والقربات أعظم عند الله تعالى، ولنتذكر أن هذه العبادات الرمضانية لا ترفع عند الله ولا تقبل من قاطع رحم.. ففي الحديث: «إن أعمال بني آدم تعرض كل خميس ليلة الجمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم»(رواه أحمد).
لا أريد يا زوجتي أن تتفكك أسرنا ويبقى الرباط بينهم – كما في بعض الدول – بطاقة بريدية كل عام، أو رسالة نصية قصيرة، وهم يعيشون في مدينة واحدة!!
هي..
أشعر يا زوجي بمكانة رمضان وأتذوق بركته مع أول يوم فيه حين تجتمع الأسرة كلها على مائدة الإفطار، وأذكر فرحة الأطفال وهم يتراصون حولها وبأيدي بعضهم حلواه المفضلة التي منعه عنها الصيام.. وأطباقهم الفارغة في انتظار الطعام! جرْيٌ وضجيج مختلف تختلط فيه أصواتهم البريئة، ولثغاتهم المحببة، في اجتماع أشبه باجتماع العيد! أنظر في عيونهم الصادقة وهي تضحك سروراً وفرحاً، وغبطة ورضاًًً بهذا الجمع والحشد الأسري الكبير الذي أتى به رمضان منذ أول أيامه، بعد أن فقدوه في زحمة الحياة.
ألا ما أجمل تلك اللحظات الرمضانية.. لا يخلو يوم من أيام رمضان إلا وللأهل صحبة فيه، وللأولاد حضن قادم إليهم يشاركهم ساعة الإفطار وصلاة القيام والذكر والدعاء، يتعاون فيه الجميع على البر والتقوى.. فرمضان شهر التقوى.
ترقب وصول العم وأولاده أو العمة وزوجها أو الخال أو الخالة.. أما الجد والجدة فالدار دارهما والبيت بيتهما وهم أصحاب فضل وأهل ريادة فيه ومحل طاعة واحترام.. والأولاد بين هذا وذاك في فرح غامر وإحساس لا يوصف، يتنازعون فيما بينهم أيدي الجد والجدة فالكل يريد أن يستأثر بالجلوس بجانبهما، وكأنهما الملك والملكة!.. أرى المشهد فتدمع العين تأثراً.. قبلات حارة يطبعها الجد على جبين القادمين تُعانق معها قبلة إجلال على يديه وحضناً دافئاً بين ذراعيه.
هكذا كانت الأسرة يا زوجي في رمضان، وما زالت بعض الأسر على هذا الحال وإن كانت قليلة، وفي ظني أن هذا السلوك لا يقل أهمية عن الصيام! إنه سلوك تربوي رائع يغرس غراس الصلة ويبذر بذور الحب والتراحم بين أفراد الأسرة الواحدة، ويحدث التآلف والترابط بين فروع شجرتها الكبيرة وجذورها وأوراقها وثمارها، من الجدود والأولاد والأحفاد والأرحام، فيأتي بالجسد الواحد، والمجتمع الواحد، والأمة الواحدة!
إن الترابط الأسري يا زوجي ليس نافلة من الأعمال، بل هو ضرورة وواجب لا يسقطه تنازل البعض عنه، أو تقصيرهم في أدائه، وقد جاء رجل إلى النبي “صلى الله عليه وسلم” شاكياً ومستفتياً، فقال: يا رسولَ اللهِ! إنَّ لي قرابةً.. أصِلُهم ويقطَعوني، وأُحسِنُ إليهم ويُسيئون إليَّ.. وأحلمُ عنهم ويجهلون عليَّ. فقال “صلى الله عليه وسلم”: «لئن كنتَ كما قلتَ، فكأنما تُسِفُّهمُ المَلَّ، ولا يزال معك من اللهِ ظهيرٌ عليهم، ما دمتَ على ذلك»(رواه مسلم). ولم يأمره بقطيعتهم ولا معاملتهم بالمثل، وإنما بالفضل، ويكفيه معية الله عز وجل التي لن يضيع معها.
إن هذه المشاعر السلبية يا زوجي من بعض الناس تجاه أرحامهم قد أطلت بوجهها بعد أن كانت تستخفي عن الأنظار، فتجد القطيعة من أحد الطرفين أو كليهما، وقد تمتد لفترات طويلة بينهما، وإن رمضان فرصة للعودة لمن هذا حاله أن يأتي بطرفه الآخر ويستمسك به.
وتزداد تلك المشاعر بشاعة إن كانت من الولد لوالديه، أو من الأخ لأخيه، وأظن يا زوجي أن التواصل بين الأرحام يختلف طريقةً وصفةً مع اختلاف درجة القرابة، فما يكون صلة للبعض قد يصبح قطيعة لغيره، فلا يليق بالولد أن يصل والديه بالهاتف أو الرسائل البريدية فقط، ويكتفي بذلك مع مقدرته على زيارتهما، ولا يليق بالأخ أن تكون صلته بأخيه هي رسائل المحمول، وكلمات يبثها إليه على شبكة التواصل «الفيسبوك» يظن معها أن صلته قد وصلت منتهاها، ألا يرى أنها تسمى شبكة التواصل الاجتماعي لا الأسري! إنما التواصل الأسري قرب وتزاور وألفة ومخالطة، وقضاء للحاجات، فإن للقريب منزلة ليست لغيره وللواصل عطايا لصلته، كما قال النبي “صلى الله عليه وسلم”: «الصدقةُ على المسكين صدقةٌ، وعلى القريبِ صدقتان: صدقة وصِلة» (صحيح الترغيب).
بَيْد أن هناك يا زوجي من باب الإنصاف من يحبسهم العذر، وتنأى بهم الديار غربة رغماً عنهم وتنقطع بهم السبل «لا يستطيعون ضرباً في الأرض» قد فُرق بينهم وبين أحبابهم لأسباب ليست بمقدورهم تجاوزها، فهؤلاء واصلون بنياتهم و«لا يكلف الله نفساً إلا وسعها».
ومن انقطعت به السبل ولا أهل له، فقد جعل الله له من كل المؤمنين إخوة وأهلاً، { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }(الحجرات:10)، ومن فقد أهله وعشيرته بتسلط ظالم أو احتلال عدو، فكل المؤمنين رَحِمُه وأهله، وصلته عليهم واجبة.