إنها قرة العين التي تحدث عنها القرآن الكريم وبدأ بها في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) (الفرقان: 74)، فالزوجان نواة أي أسرة، وهما الأساس الأول في إيجاد وتنشئة قرة الأعين من الأولاد من البنين رجال المستقبل، ومن البنات المدرَسة الأولى في حياة كل إنسان، فإذا كانت الزوجة قرة عين لزوجها، وقرَّت عينُها به؛ سارت سفينة الحياة الزوجية بهما للإبحار معاً في طريق قرة الأعين من الذرية الصالحة، بلا عواصف مهلكة أو أمواج مغرِقة، فأنعِم بها من قرة عين!
هل تذوقتَ يوماً حلاوة ذلك الشعور الرائع بالرضا عن رفيق دربك وصديق عمرك وشريكك في عملك؛ فَسَرَّك ما يعمل؟ وهل تذوقتَ طعم السعادة والاطمئنان القلبي الذي يظهر على تقاسيم وجهك، وفي نظرات عينيك، وفي سلوكك وأخلاقك وذلك حين ترى فيه علامات الصداقة وإخلاص الصديق؟ لا شك أن عينك قرت بصحبته، وأنك تحرص على قربه ومودته، فما ظنك لو كان هذا هو ولدك أو زوجتك؟ لا شك أن قرة عينك به وبها ستكون أكبر وأعظم، وقد ذكر السعدي أن كلمة «أزواجنا» في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا) هي القرناء من الأصحاب والأقران والزوجات.
لقد امتدح الله تعالى عباده الذين يسألونه أن يهبهم قرة أعين من أزواجهم وذرياتهم، وشرَّفهم فوصفهم بالعبودية له وأضافهم إلى اسمه «الرحمن»، فسماهم «عباد الرحمن»، ومن صفاتهم وحسن عبوديتهم علو همتهم في كل ما يقربهم إلى الله تعالى، من العبادات، والأخلاق، والتربية، والتزكية، وكل هذا من وسائل الوصول إلى قرة الأعين في الدنيا والآخرة.
وقد ذكر ابن كثير قول ابن عباس رضي الله عنه، في قوله تعالى: (هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) يعنون: من يعمل بالطاعة، فتقر به أعينهم في الدنيا والآخرة، وحين سُئل الحسن البصري عن هذه الآية قال: «أن يُرِيَ الله العبد المسلم من زوجته، ومن أخيه، ومن حميمه طاعة الله، لا والله ما شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولداً، أو ولد ولد، أو أخاً، أو حميماً مطيعاً لله عز وجل» (ابن كثير).
قرة العين من الزوجين
ولحصول قرة العين من الأزواج والذرية، فإن ذلك يبدأ التجهيز له والأخذ بأسبابه قبل الزواج، وذلك بحسن الاختيار عند الإقبال عليه، قال تعالى: (وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) (البقرة: 221)، وقال عز وجل: (وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) (البقرة: 221)، فأولى درجات الارتقاء إلى قرة الأعين من الزوجين درجة الإيمان العالية، فهي التي تثمر عملاً صالحاً وخُلقاً طيباً وحُسنَ تبعل وطِيب عشرة، وكلما قويت ظهر أثرها وامتدت فروع شجرتها وعلتْ وأثمرت.
كما وضع لنا النبي صلى الله عليه وسلم أسس الاختيار الصحيح، فقال للأزواج: «تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأرْبَعٍ: لِمالِها ولِحَسَبِها وجَمالِها ولِدِينِها، فاظْفَرْ بذاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَداكَ» (رواه البخاري)، وقال: «تزوَّجوا الوَدودَ الوَلودَ فإنِّي مُكاثِرٌ بكم» (صحيح ابن حبان)، وقال لأولياء الزوجة: «إذا خطب إليكم من ترضوْن دينَه وخُلقَه فزوِّجوه، إلَّا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ عريضٌ» (رواه البخاري).
غير أن البعض يغفل هذا الجانب المهم الذي ستبنى عليه حياته في الدنيا وسعادته في الآخرة، فترى بعضهم يبحثون عن الجمال الظاهر أولاً ويجعلونه الأساس وما بعده تابع! فيطلبون مطالب عجيبة تصل إلى حد التعسف في الاختيار.
الشقائق والقوارير
إن الإسلام جعل المرأة شقيقة الرجل، ونزل القرآن الكريم مبيناً أنها تماثل الرجل في الإنسانية والتكاليف الشرعية والجزاء والثواب، وأعلنها النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: «إنما النساء شقائق الرجال» (رواه أبو داود)، قال ابن باز: «يعني أنهن من جنس الرجال كالنصف من الرجل، كونها خرجت من الرحم كما خرج هو من الرحم، خرجت من الرجل كما خرج من الرجل، فهن شقائق الرجال في كل الأمور إلا ما استثناه الشارع»، وقال الخطابي: «أي نظائرهم، وأمثالهم في الخلق، والطباع فكأنهن شققن من الرجال» (معالم السنن).
فهي شريكة الرجل والراعية المسؤولة في بيته وكلاهما مسؤول، كما قال صلى الله عليه وسلم: «والرَّجُلُ في أهْلِهِ راعٍ وهو مَسْؤولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِها راعِيَةٌ وهي مَسْؤولَةٌ عن رَعِيَّتِها» (رواه البخاري)، فكل منهما يكمل الآخر، ولا غنى لكل منهما عن نصفه الآخر.
وقد صف النبي صلى الله عليه وسلم النساء بالقوارير، فقال: «رفقاً بالقوارير» (أخرجه البخاري بمعناه) والقارورة «وِعاءٌ من الزُّجاج تُحفَظُ فيه السّوائل، من زجاج في بياض الفضّة وصفاء الزجاج» (معجم المعاني الجامع)، فالزوجة كالقارورة، والقارورة تحتاج إلى المحافظة على صفائها ونقائها، ومعاملتها برفق حتى لا تخدش أو تنكسر، وهكذا زوجتك أيها الزوج، تحتاج أن تعاملها برفق، وتحافظ على بريق الفطرة فيها وصفائها، احذر من أن تخدشها بكلمة سوء أو تحقير أو إهانة أو إهمال، أو أن تكسرها بسوء المعاملة أو بالطلاق أو التهديد به، فإنك إن حافظت على هذه القارورة الرقيقة عشت معها سعيداً.
فإذا أردتَ أن تقر عينها بك فلتكن التقوى لباسك أولاً؛ حتى تعرف حقها عليك وتؤديه إليها، وأن تعطيَ كما تأخذ، وتؤدي الذي عليك كما تطالب بما لك، ولتكن لها عوناً لها على طاعة ربها فتشجعها على عمل الخير، وتأخذ بيدها إلى طريق الله برفق وحب، ومودة ورحمة، واحرص على أن تعاشرها بالمعروف وتشاركها أعباءها وتستمع إليها وتتغاضى عن هفواتها، وأن تعترف بفضلها وتكرمها ولا تظلمها، وأنتَ مع هذا كله تقدم لها من نفسك القدوة الحسنة.
كوني قرة عين لزوجك
وأنت أيتها الزوجة، إن أردت أن تصبحي قرة عين لزوجك فكوني خير متاع الدنيا بالنسبة له، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الدُّنيا متاعٌ وخيرُ متاعِ الدنيا المرأةُ الصَّالحةِ» (رواه مسلم)، اتقي الله في نفسك وفي زوجك وولدك وبيتك، أحسني التبعل للزوج واعرفي فضله واشكري له، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا ينظرُ اللهُ تبارك وتعالى إلى امرأةٍ لا تشكُرُ لزوجِها؛ وهيَ لا تَستَغني عنهُ» (صحيح الترغيب).
أريِهِ من نفسك كل جميل، واحرصي أن تكون صورتك طيبة وهيئتك حسنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ النساء التي تَسُرُّهُ إذا نظرَ..» (السلسلة الصحيحة)، أن يَحْسن خُلقك ويستقيم لسانك معه، فبدلاً من العتاب واللوم يكون المدح والثناء والكلمات الطيبات، وبدلاً من تصيد الأخطاء وتلمس العثرات يكون نشر الحسنات والتغافل والعفو عن السيئات، وأبشري يا قرة العين فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ» (رواه أحمد).
طريق الزوجين إلى السعادة وقرة العين
إنه الطريق الذي يصل بالزوجين معاً إلى هذه الدرجة العالية، درجة الإمامة في الدين، وقد ذكره الله عز وجل في دعاء عباد الرحمن بعد ذِكر قرة الأعين، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً)، قال السعدي: «أي: أوصلنا يا ربنا إلى هذه الدرجة العالية، درجة الصديقين والكمل من عباد الله الصالحين، وهي درجة الإمامة في الدين، وأن يكونوا قدوة للمتقين في أقوالهم وأفعالهم يُقتدى بأفعالهم، ويطُمَئَن لأقوالهم، ويسير أهل الخير خلفهم فيهدون ويهتدون، فهذا الدعاء يستلزم من الأعمال والصبر على طاعة الله وعن معصيته وأقداره المؤلمة، ومن العلم التام الذي يوصل صاحبه إلى درجة اليقين، خيراً كثيراً وعطاء جزيلاً، وأن يكونوا في أعلى ما يمكن من درجات الخلق بعد الرسل».