لم يسبق للفلسفة أو الشعر أن فتحاً فضاءً يستهوي مئات الملايين من البشر ويستحوذ على اهتمامهم مثلما تفعل التكنولوجيا اليوم، فقد استطاعت بالفعل أن تتخطى العوائق اللسانية والثقافية والدينية فتنمط سلوك الإنسان لتحوله إلى كائن صفته الإدمان على الشاشات الرقمية الذكية، حتى صار القاسم المشترك بين غالبية أطفال العالم اليوم ومراهقيه هو الجلوس أمام هذه الشاشات دون مبالاة بما يحدث من حولهم، وكأن الأداة التكنولوجية قد جردتهم من حس الانتماء إلى مكان وجودهم الأصلي لتزج بهم في أماكن افتراضية تهفو إليها عقولهم وأرواحهم.
من يتأمل في أحوال العالم يجد أن الساحات الثقافية والفكرية صارت تضيق أمام الإبداعات الفلسفية والشعرية، وكأن الخطاب الفلسفي والقصيدة الشعرية قد استنفدا أغراضهما فأخليا المكان لخطاب جديد ما فتئت نجومه تزداد تألقا، ألا وهو خطاب التكنولوجيا.
حين نحسن الإصغاء لمارك زوكربيرغ وهو يقدم ملامح مشروعه الجديد “ميتافيرس” ندرك أننا أمام منعطف جديد في تاريخ الفكر الإنساني، فحديثه عن الوجود والحضور والكون يؤشر على أن أسئلة الوجود الكبرى لم تعد شأناً فلسفياً مجرداً أو شعرياً خالصاً، بل صارت أسئلة يُطلَب لها أجوبة تكنولوجية ذات طبيعة تقنية عملية.
في معرض التبشير بفتوحات الميتافيرس، يقول زوكربيرغ: إن هذه التكنولوجيا الجديدة ستساعدنا على تكثيف إحساسنا بالحضور في أماكن أخرى، ولعلنا نجد في قوله هذا ما يغنينا عن البحث في ثنايا تفاصيل حديثه الكثيرة عن المقصد أو المقاصد من وراء الاشتغال على تطوير مشروعه التكنولوجي المذهل في ظاهره، فأمام الحديث عن تكثيف الإحساس بالحضور في أماكن أخرى نجد أنفسنا نُجابَه بسؤال التكنولوجيا والوجود، هذا السؤال الذي سبق أن خاض فيه كثيرون، على رأسهم الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر.
إذا كان ظاهر الحديث عن تكثيف الإحساس بالحضور في أماكن أخرى يوحي بأننا أمام مقصد جديد لم يُسبَق إليه، فإن باطنه يحيلنا على إرث فلسفي ضارب في القدم. وما سَعيُ زوكربيرغ وأمثاله من رواد التكنولوجيا اليوم إلى بلوغ هذا المقصد إلا تجسيد لتصورات عن الوجود، يقول أصحابها بإمكانية التأسيس لعالم مثالي خالص من شوائب العالم المعطى، يُمَنّون النفوسَ ويشوّقونها إلى أماكن غير مكان وجودها، كما هو حال أصحاب الفكر الطوبوي، مثلا؛ حيث إن مدلول لفظة طوبوي في أصلها اليوناني Utopia يعني اللا مكان.
إن الحديث عن تكثيف الحضور في أماكن أخرى ينطوي على مسلَّمة مفادها القول بفساد المكان الطبيعي وضيقه أمام الكائن. ولا نظن أن التكنولوجيا المتمثلة في نظّارات تُمكننا من التفاعل مع الواقع الافتراضي والواقع المعزز أو المدمج بإمكانها أن تكثف الإحساس بالحضور في المكان المحسوس، بل تزيد الإنسان إحساسا بالاغتراب في هذا المكان. فالحقيقة هي أن التكنولوجيا لا تَعِد بحل مشكل الفلسفات التي أفضت إلى فصل الإنسان عن العالم وتجريده من حس الانتماء إلى الطبيعة، بل تزيد هذا الإنسان انغماسا في عوالم من صنع خياله العقلي ومهارته الصناعية.
قد يكون لتطبيقات الميتافيرس فوائد عملية كثيرة لا سبيل إلى إنكارها أو التقليل من قيمتها، كالمساعدة في تنظيم العمل الإداري والدراسة والتعلّم عن بعد، أو الاستمتاع برفقة الأصدقاء والأقرباء الذين تفصلنا عنهم مسافات طويلة، أو المساهمة في بعض الألعاب، وغيرها من التطبيقات العملية. غير أن هذه التطبيقات لا ترقى إلى مستوى الإجابة عن أسئلة المعنى المرتبطة بوجود الإنسان؛ بل تظل مجرد إبداعات تقنية كسابقاتها، ما تلبث أن تتحكم في تنظيم علاقة الناس بالزمن والمكان، حتى تَظهر الحاجة إلى تجاوزها.
إن ما يدعو للقلق هو أن التكنولوجيا لم تعد مجرد تقنيات وأدوات تُستعمل في تحريك رحى المعيشة، بل صارت ثقافة تُحدد علاقة الإنسان بالزمن والمكان، وتُملي عليه أشكال حضوره في العالم الطبيعي. فالتكنولوجيا، كما تتجسد في مشروع الميتافيرس، تؤشر على تجاوز العقل الإنساني لمرحلة الوجود الأصيل، حيث كان الإنسان يحيى شعرا فوق هذه الأرض كما يقول الشاعر الألماني “فريدرش هولدرلين” أي حياة طبيعية قوامها الشعور بالانغماس في الوجود الطبيعي المعطى؛ أو حيث يرفض الإنسان الانجحار داخل أنساق ضيقة تحجب عنه رؤية الكون الفسيح، كما نفهم من أبيات الشاعر العربي الشمقمق التي مطلعها:
برزت من المنازل والقباب فلم يعسر على أحد حجابي
فمنزلي الفضاء وسقف بيتي سماء الله أو قطع السحاب
فأنت إذا أردت دخلت بيتي علي مسلماً من غير باب
لأني لم أجد مصراع باب يكون من السحاب إلى التراب
الشاعر لا يصنع الأبواب، لأنه يرى في الباب أداة تفصل الداخل عن الخارج وتحرم الكائن من الإحساس بالانتماء إلى الكون. بهذا المعنى يكون الشعر تعبيراً عن مرحلة الشعور بالوجود في الكون.
كما أن المشاريع التكنولوجية تؤشر على تجاوز مرحلة الفلسفة، حيث يسعى الإنسان إلى تَعقُّل العالم، أي الخروج من مضمار الشاسع المطلق، ثم دخول مضمار الضيق المغلق. فالعقل الفلسفي يقوم بتفكيك الواقع إلى أجزاء، يحدد ماهية كل جزء منها وفق منطق الحدود الذي قوامه “الجمع والمنع” Inclusion/Exclusion، أي الفصل بين الداخل والخارج، قبل أن يعيد تركيب هذه الأجزاء تركيبا نسقيا عقليا خالصا. وبهذا يكون عنوان مرحلة الفلسفة هو “بَسط العقل على الوجود”.
وأما التكنولوجيا فقد صارت، مع الميتافيرس وأمثالها من المشاريع التكنولوجية الأخرى، تروم بَسط الصناعة على الطبيعة، خارجة بذلك من مرحلة صناعة الأنساق الفلسفية والجدل الفلسفي الذي يرافقها. ولم يعد العقل التكنولوجي يقف عند حدود الوجود كما يتبلور في أنساق ذهنية، بل تعدى ذلك ليتوسل بالأداة التكنولوجية كي ينفخ الروح في وجودٍ مُبَرْمَج.
ولا عجب أن يحظى المُبرمِجون بمكانة مرموقة في عالم التكنولوجيا اليوم، ذلك أننا نعيش زمن بَرْمَجة الوجود. ألا ترى كيف أصبح الإنسان المالك لأداة تكنولوجية، ممثلة في نظارات، يشيح بوجهه عن الوجود الحقيقي ممثلا في منظر البحر أمام عينيه، كي يطلب التنعُّم بوجود آخر، بمنظر بحر آخر أحسن تركيبا وتأليفا وأبهى ألوانا وأشكالا. أقل ما يمكن أن يقال هو أن هذه العوالم المبرمجة تكنولوجِيّا تدخل الإنسان مرحلة صار يشتبه عليه فيها الوجود الأصلي بالوجود المزيف.
ولا نخال هذا الإنسان، مع مرور الوقت، إلا مُفْرِطا في الإقبال على العوالم المُبرمَجة، مفَرِّطا في العالم الحقيقي. ذلك أن الأجيال التي ترعرعت في حضن الثقافة الرقمية، أو سكان العالم الرقمي الأصليين كما يطلق عليهم Digital natives، أصبحوا مقطوعي الصلة بالفضاء الطبيعي، يقضون معظم أوقاتهم في فضاءات افتراضية رقمية طلبا للتلذذ بمحسوسات البصر.
والحاصل أن الإقامة في هذه الفضاءات لا تزيد هذه الأجيال إلا شغفا بالعوالم الافتراضية، ولا تذكي إحساسهم بالحاجة إلى العودة إلى الوراء، إلى عالم الطبيعة. مثلهم مثل الأطفال الذين يُعنون ببرمجة الألعاب، تَصْرِفهم هذه البرمجة عن اللعب. فالإنسان الذي يوغل في التفاعل مع الواقع المبرمج، يفقد القدرة على التعامل مع الواقع الطبيعي.
ويلوح للمتأمل في الخطاب التكنولوجي اليوم وجوه من الإفراط في التبشير بعوالم مجردة، والتسويق لأنواع من “الوجود المبرمج” حتى صار السامع لهذا الخطاب يتوهم أن التكنولوجيا ستبيعه قِسْطا من الحياة. والحاصل أن تكنولوجيا الميتافيرس وشبيهاتها ليست تكنولوجيا تُسهّل تواصل الإنسان بالطبيعة وتكثف إحساسه بالحياة فيها، بقدر ما تزيده اغترابا في عوالم اصطناعية. وبهذا الاعتبار يصح انتقاد الخطاب التكنولوجي، وتفكيك الأسس الفكرية التي يقوم عليها.
_____________________
(*) المصدر: “الجزيرة.نت”.