مهما فر الإنسان من الموت وتشبث بالحياة وأنكر ما بعد الموت أو آمن به فإن الموت مستقبله ومنتظره وملاقيه لا محالة، أو على حد وصف القرآن: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾ (الجمعة: 8).
ومهما احتاط الإنسان لنفسه فحافظ على صحته واهتم بجسده بالرياضة والغذاء والعلاج، وتحاشى مواضع الهلكة من حروب ومجاعات واضطرابات، فإنه مدركه مهما طال أجله، قال تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ﴾ (النساء: 78).
فالإنسان بين أن يدركه الموت أو يلقاه فهو واقع بين براثنه.
ورغم حقيقة الموت التي لا يجادل فيها أحد، ويقر بها الجميع على مر العصور والدهور، فإن نفْس الإنسان تكره الموت جبلَّة، يستوي في ذلك المؤمن والكافر؛ وقد لفت انتباهنا لذلك ما جاء في الحديث القدسي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»(1).
وعندما أشكل حديث «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» على شريح بن هانئ؛ إذ إنه خشي أن يترتب على كراهية الإنسان للموت كراهيته للقاء الله، فذهب إلى أمنا عائشة رضي الله عنها قائلاً لها: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَذْكُرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَدِيثًا إِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ هَلَكْنَا.
فَقَالَتْ: إِنَّ الْهَالِكَ مَنْ هَلَكَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَمَا ذَاكَ؟
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ»، وَلَيْسَ مِنَّا أَحَدٌ إِلاَّ وَهُوَ يَكْرَهُ الْمَوْتَ!
فَقَالَتْ: قَدْ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَلَيْسَ بِالَّذِي تَذْهَبُ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ إِذَا شَخَصَ الْبَصَرُ، وَحَشْرَجَ الصَّدْرُ، وَاقْشَعَرَّ الْجِلْدُ، وَتَشَنَّجَتِ الأَصَابِعُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ(2).
والحياة هبة من الله تعالى للإنسان، ومن يطلب الموت ويتمناه هو شخص رادٌّ لهبة الله؛ لذا جاء النهي عن كراهية تمني الموت؛ فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي»(3).
قال الإمام النووي فيه: التصريح بكراهة تمني الموت لضر نزل به من مرض أو فاقة أو محنة من عدو أو نحو ذلك من مشاق الدنيا، فأما إذا خاف ضررًا في دينه أو فتنة فيه فلا كراهة فيه؛ لمفهوم هذا الحديث وغيره.
وقد فعل هذا الثاني خلائق من السلف عند خوف الفتنة في أديانهم، وفيه أنه إن خاف ولم يصبر على حاله في بلواه بالمرض ونحوه فليقل: اللهم أحيني إن كانت الحياة خيرًا.. إلخ، والأفضل الصبر والسكون للقضاء(4).
وهناك صنف من البشر لا يتمنى الموت أبدًا، وهم اليهود، رغم زعمهم أنهم شعب الله المختار، وقد بيَّن الله تعالى ذلك في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {6} وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ (الجمعة).
لكن الفلسطينيين أظهروا للعالم أنهم لا يخافون الموت المحدق بهم، وأن الإرهاب الممارس ضدهم لم يفتّ في عضدهم، وأن العنف الواقع عليهم لم يزدهم إلا عزيمة وإصرارًا على مقاومة العدو، كلّ في ميدانه؛ فالمجاهد يقاوم بسلاحه، والطبيب يقاوم بثباته بين مرضاه، والمسعف يقاوم بنقل الشهداء وإسعاف الجرحى، والكاتب يقاوم بالكلمة.. إلخ.
فهم متشبثون بالحياة رغم قساوتها؛ فإن نزل بهم الموت فإنهم يسلمون أمرهم لله الذي حدَّد الآجال ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ (الأعراف: 34).
ثم إن سلامة الإنسان في جسده وماله وأهله داعية قوية من دواعي نسيان الموت؛ فإذا ذهبت السلامة عاين الناس الموت، فإذا نزل بساحتهم فإنهم يستقبلونه رغبة فيما عند الله من الأمن والسلامة والنجاة والنعيم المقيم.
وإذا لم يعد الموت مظنونًا مؤجلاً، بل أصبح محققًا معجَّلاً فلا معنى للخوف والهرب؛ فهم يعيشون في معترك المنايا وأحاط بهم الموت من كل مكان فسلموا أمرهم لله.
إن الكافرين المشركين إذا أيقنوا الهلاك تضرعوا إلى الله ونسوا أوثانهم المزعومة؛ قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ (يونس: 22)، فما بالك بالمؤمنين الذين جعلوا الصبر طوق نجاتهم، والتسليم لقضاء الله وقدره زادهم؟!
يقول الكاتب الفلسطيني جهاد حلس: «نحن لسنا بشرًا خارقين حتى نصبر على كل هذا الموت، ونحتمل كل هذا الدمار، كل ما في الأمر أن الله ثبَّت قلوبنا، وقذف فيها الطمأنينة، لولا ذلك لطاشت عقولنا، وتفطرت قلوبنا من هول ما نرى ونشاهد»(5).
والفلسطيني يعرف ثواب الشهادة على يد الأعداء الصهاينة؛ فليس بينه وبين الدرجات العلا من الجنة إلا الموت، فمرحبًا به إذن إن حل بساحتهم.
فهم صبروا ابتغاء وجه الله، وسلموا أمرهم لله، ورضوا بقضاء الله وقدره؛ فكان المدد الرباني لهم بالتثبيت والطمأنينة.
ويأتي بعد ذلك تجلدهم أمام العدو الصهيوني حتى لا يظن في لحظة أنه انتصر عليهم، وتمثلوا قول أسلافهم:
وتجلدي للشامتين أريهمُ أني لريب الدهر لا أتضعضع
هذه الأمور مجتمعة جعلت عقول الصهاينة تطيش؛ فصرح وزير التراث في حكومة الاحتلال عميحاي إلياهو قائلاً: على «إسرائيل» إيجاد طرق أكثر إيلامًا من الموت بالنسبة للفلسطينيين؛ لأن الموت لا يؤلمهم!
إنه الممات الذي يغيظ الأعداء، ولا يشفي صدورهم، وينقلب عليهم جنونًا في الدنيا، وحسرة وندامة في الآخرة.
_______________________
(1) أخرجه البخاري في «الرقاق»، باب «التواضع»، ح(6502).
(2) أخرجه مسلم في «الذكر والدعاء والتوبة»، باب «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ»، ح(2685).
(3) أخرجه مسلم في «الذكر والدعاء والتوبة»، باب «كَرَاهَةِ تَمَنِّي الْمَوْتِ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ»، ح(2680).
(4) شرح النووي على مسلم، (17/ 7-8).
(5) https://twitter.com/Jhkhelles/status/1742812569964793907.