رغم الجهود والإصلاحات التي قامت بها الحكومات الموريتانية المتعاقبة على مدى عقود من الزمن بهدف تحسين المنظومة التعليمية في البلاد، لا يزال التعليم في موريتانيا -بمختلف مستوياته- يعاني من مشكلات مختلفة ويفتقر إلى الجودة والتطوير، وقد شهدت الأشهر الأخيرة سلسلة احتجاجات تطالب بتحسين واقع التعليم في البلاد والارتقاء به إلى مرتبة لائقة، فغالباً ما تأتي موريتانيا في ذيل مؤشر جودة التعليم عربياً وعالمياً.
ويبدو أن المشكلات الموجودة في المنظومة التعليمية الموريتانية لا تراها أعينُ النقابيين والطلاب وأولياء الأمور فقط، بل تلاحظها بعض الجهات المعنية بهذا القطاع الذي يشكل العمود الفقري لنهوض أي دولة مهما كانت ثرواتها، لذلك تمت الإشارة إلى هذه المشكلات أو النواقص في المحور الرابع من برنامج الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني المعروف اختصاراً بـ”برنامج تعهداتي”، حيث جاء في النقطة الأولى “إقامة نظام تعليمي ناجع”: بالرغم من الجهود التي بذلت في مضمار توفير البنية التحية المدرسية في المناطق الفقيرة، وإنشاء مدارس الامتياز، وتوفير آلاف الفرص الجديدة للولوج إلى التعليم المهني، والقفزة الكمية والكيفية التي شهدها التعليم العالي، بالرغم من كل ذلك، فإن أداء منظومتنا التعليمية ما زال دون المستوى المطلوب.
ولد الرباني: التعليم يعاني من أزمات حادة ومخصصاته من الميزانية العامة 12%
في هذا التقرير تفتح “المجتمع” نافذة على واقع التعليم في موريتانيا، لتسلط الضوء على المشكلات التي يعاني منها هذا القطاع المهم، وتكشف عن وجهة نظر رؤساء 5 نقابات تعليمية موريتانية بهذا الخصوص، وتناقش إلى أي مدى ساهمت الاحتجاجات المتكررة والبيانات المتعددة في تحسين المنظومة التعليمية بموريتانيا.
أزمات حادة وإصلاحات فاشلة
قد لا يكون من المبالغة القول: إن التعليم من أبرز الملفات الشائكة والبارزة في المشهد المحلي الموريتاني إن لم يكن أبرزها، فمنذ أشهر عديدة -رغم جائحة كورونا- تخرج كل فترة مظاهرات تطالب بتحسين التعليم في موريتانيا، سواء تعلق الأمر بطلاب الجامعة، أو الحاصلين على البكالوريا، أو الممنوحين للخارج، أو المطالبين بالترسيم، أو الأساتذة والمدرسين.
وفي هذا السياق، قال محمدن ولد الرباني، الأمين العام للنقابة العامة للتعليم العام والفني والبحث العلمي، في حديث لـ”المجتمع”: التعليم في موريتانيا يعاني من أزمات حادة، من أهمها: ضعف مستويات التلاميذ خاصة في اللغات والمواد العلمية، وضعف الموارد بحيث لا تتجاوز مخصصات التعليم من الميزانية العامة نحو 12%، مما يؤدي إلى مشكلات من قبيل سوء ظروف الطواقم التعليمية والاكتظاظ وندرة الكتاب المدرسي، وعزوف النخبة عن تدريس أبنائها في المؤسسات الوطنية وخاصة المؤسسات العمومية.
بدوره، قال الأستاذ أحمد محمود بيداه، الأمين العام للنقابة المستقلة لأساتذة التعليم الثانوي بموريتانيا، في تصريح لـ”المجتمع”: رغم كل ما يدعيه القائمون على الشأن العام في موريتانيا، فإن محاولات إصلاح التعليم باءت كلها بالفشل، ولم تنجح تلك المحاولات المرتجلة -حتى الآن- في تقويم اعوجاجات نظامنا التربوي نتيجة إهمالها دائماً للمدرس الذي هو حجر الأساس في أي إصلاح جذري يراد له النجاح، مضيفاً أن أبرز المشكلات التي يعاني منها التعليم في موريتانيا تتمثل في: إهمال الظروف المزرية للمدرسين، وغياب رؤية إستراتيجية لتحقيق نهضة تعليمية في البلد، والفساد الإداري الذي ينخر جسم قطاع التهذيب منذ فترة.
ولد بيداه: محاولات إصلاح التعليم باءت كلها بالفشل وأهملت المدرس الذي يمثل حجر الأساس
مشكلات بنيوية ومهنية وإدارية
من جهته، قال محمد عبدالرحمن سيداتي الجيه، الأمين العام للنقابة الوطنية للمعلمين الموريتانيين عضو المكتب التنفيذي لمنسقية التعليم الأساسي، في تصريح لـ “المجتمع”: إن من يريد الحديث عن واقع التعليم في موريتانيا يقف حائراً من أين يبدأ حديثه لكثرة مشكلات هذا الواقع وتعقيداتها وترابطها، موضحاً أن كبريات المشكلات يمكن إجمالها في: المشكلات البنيوية المتعلقة بهيكلة قطاع التعليم الذي لم يعرف استقراراً منذ نشأة الدولة مما يعكس عدم وضوح الرؤية لدى صناع القرار إزاء هذا القطاع، والمشكلات المتعلقة بجاذبية مهنة التعليم التي أصبحت طاردة للكفاءات، والمشكلات المتعلقة بالتسيير، فهناك سوء استغلال للمصادر البشرية والموارد المالية واللوازم والمعدات، هذا فضلاً عن مشكلات تتعلق بالكم والكيف كانخفاض نسب الاستبقاء وارتفاع معدلات الرسوب، ومشكلات تتعلق بالبنية التحتية مثل نقص الحجرات ورداءة الكثير من الموجود منها.
وأكد ولد الجيه أن إيجاد حلول للمشكلات أعلاه يعتبر مدخلاً مهماً لإصلاح التعليم الذي يمكن أن يتحقق بتحقق ثلاثة أهداف رئيسة، وهي: مصادر بشرية ذات كفاءة عالية مؤهلة ومدربة لخدمة كافة قطاعات الدولة، ومخرجات تعليم نوعي ملائمة لسوق العمل، واندماج وطني تعليمي متعدد الأشكال موحد المناهج والأهداف.
ولد اصنيب: تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية أدى إلى تدنٍّ غير مسبوق في المستويات
وعـود بالإصلاح لم تـرَ النور
بدوره، قال سيد محمد ولد اصنيب، الأمين العام للنقابة الحرة للمعلمين الموريتانيين، في حديث لـ”المجتمع”: إن التعليم في موريتانيا يعاني من عدة مشكلات، أبرزها: الفوضوية في تسيير القطاع وإخضاعه لتأثيرات التجاذبات السياسية وتدخلات المتنفذين، وعدم مراجعة الإصلاحات المقام بها وآخرها “إصلاح 1999م” الذي لم يشهد أي مراجعة منذ إقراره، وأبرز مشكلة طرحها هذا الإصلاح هي تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية، مما تسبب في تدنٍّ غير مسبوق في المستويات، هذا بالإضافة إلى تهميش المدرس، وعدم مراجعة المناهج بشكل يجعلها محافظة على هوية البلد ومواكبة لمستجدات العصر وخادمة لنهضة الدولة.
وأضاف أن عام 2020 لم يحمل تقدماً كبيراً في إصلاح اختلالات التعليم بموريتانيا، فظلت احتجاجات المدرسين قائمة دون استجابة من طرف الجهات المعنية، ولم نلاحظ أي إصلاحات من طرف وزارة التهذيب إذا ما استثنينا وعوداً بالبدء في خارطة إصلاح للتعليم لم ترَ النور بعد، أو إدخال تحسينات طفيفة على إحدى العلاوات المخصصة للمدرسين، لكن هذه التحسينات لم تلبِّ تطلعات نقابات المدرسين، مشيراً إلى أن العام 2020 شهد تحسناً لافتاً في نسب النجاح في الامتحانات والمسابقات الوطنية مقارنة بالأعوام الماضية.
ولد الجيه: التعليم في موريتانيا لم يعرف استقراراً منذ نشأة الدولة وهذا يعكس عدم وضوح الرؤية
دور الاحتجاجات في تحسين التعليم
تعد الاحتجاجات من أبرز الوسائل التي تلجأ إليها النقابات في موريتانيا لدفع الحكومة إلى تلبية مطالبها، ولكن النتائج التي تتمخض عنها هذه الاحتجاجات غالباً ما تكون محل خلاف، وفي هذا السياق، قال ولد الرباني: إن الاحتجاجات أسهمت في تحسين ظروف التعليم خاصة ظروف المدرسين، فقد كانت الرواتب والعلاوات جامدة وعرفت قفزات في الفترة من عام 2006-2016 نتيجة الاحتجاجات المتتالية، في حين قال ولد اصنيب: بالرغم مما تم تنظيمه من أنشطة احتجاجية، فإن الجهات الحكومية لم تتجاوب مع مطالبنا، وفي المحصلة رحل عام 2020 ومشكلات القطاع التعليمي في موريتانيا تراوح مكانها.
بدوره، قال ولد الجيه لـ”المجتمع”: إن منسقية التعليم الأساسي أصدرت عشرات البيانات ونظمت العديد من الأنشطة الاحتجاجية ما بين وقفة وإضراب، مؤكداً أن البيانات ساهمت في إنارة الرأي العام الوطني حول قضايا التعليم، كما ساهمت الوقفات والإضرابات في الضغط على صناع القرار للتحسين من واقع التعليم والمعلمين في البلد.
المساعدات المالية طبيب بعد الموت
في يوم 30 من ديسمبر الماضي، أعلنت الحكومة الموريتانية عن تخصيص مبلغ (1.5 مليار أوقية) لمساعدة مؤسسات التعليم الخصوصي على التخفيف من تأثيرات جائحة كورونا، وقد وصفت المعلِّمة أم الخير مولود فال هذه المساعدة بأنها بمثابة “طبيب بعد الموت”، في حين قال ولد الرباني: إن هذه المساعدة تمثل خطوة مهمة ويجب أن تشمل “المحاضر” والمعاهد، وينبغي أن يستفيد منها مدرسو هذه المدارس وألا تعتبرها إدارات المدارس تعويضاً عن أرباح ضائعة.
أما ولد بيداه، فقال: لا أعتقد أن المساعدة المالية التي رصدتها موريتانيا للتعليم الخاص كافية للتخفيف من تأثيرات جائحة كورونا على هذا القطاع المتشعب، نظراً لكثرة المؤسسات التعليمية الخصوصية وحجم الخسائر الكبيرة التي تكبدتها جراء هذه جائحة كورونا، ويشاطره في هذا الرأي ولد الجيه الذي قال: إن المساعدة المالية المقدمة لا تتناسب مع حجم الضرر الذي لحق بهذا القطاع بسبب جائحة “كوفيد – 19″، خاصة أن بعض المعلومات تشير إلى أنها تقتصر على ملاك المؤسسات التعليمية فقط.
ولد سيدي أوبك: الطلاب الموريتانيون الممنوحون للخارج يعانون واقعاً صعباً ونُحمِّل الوزارة المسؤولية
مطالب بترسيم مقدمي خدمات التعليم
منذ 16 يوماً، يرابط “مقدمو خدمات التعليم” أمام وزارة التهذيب الوطني للمطالبة بالترسيم في الوظيفة العمومية، و”مقدمو خدمات التعليم” مصطلح أطلقته وزارة التهذيب بموريتانيا على المتعاقدين معها، وينظر هؤلاء إلى هذا المصطلح على أنه غير قانوني ولا يرتبط بالتعليم بل يُستخدم في الأعمال الحرة والحرف كالبناء والمقاولة.
وفي تصريح لـ”المجتمع”، قال يعقوب الفاروق، أحد قادة حراك مقدمي خدمات التعليم: إن مطالب مقدمي خدمات التعليم تتمثل في دمجهم في الوظيفة العمومية بدون قيد أو شرط، مؤكداً أن ذلك لا يتأتَّى إلا بعرض الوزارة خطة قد تعهد بها الوزير الأول ووزير التعليم مكتوبة ورسمية تتضمن ولوجهم في أمد معقول، كما نطالب باحترام القانون الموريتاني الذي يقضي بمساواتنا -مادياً- بنظرائنا الرسمين، وقد ساوتنا الكفاءة والوزارة تشهد. وفي بيان صادر 5 يناير الحالي، قال “مقدمو خدمات التعليم”: مستمرون في الاعتصام السلمي والحضاري حتى تتحقق مطالبنا، ونؤكد بشكل قاطع أننا نرفض القرارات الأحادية التي دأبت الوزارة على تبنيها بحقنا.
محنة الطلاب الممنوحين للخارج
من المعتاد في موريتانيا أن يعاني بعض الطلاب الممنوحين إلى الخارج من مشكلات ومحنٍ صعبة تجعلهم يتظاهرون للمطالبة بتحسين وضعيتهم الدراسية، وفي هذا السياق، قال المصطفى ولد سيدي أوبك، الأمين للاتحاد الوطني لطلبة موريتانيا (نقابة تُعنى بالتعليم العالي)، في تصريح لـ”المجتمع”: يعاني التعليم العالي بموريتانيا من عدة اختلالات بنيوية وتسييرية تنتج كل مرحلة أنماطاً من المشكلات الجديدة، وتعجز عن مواءمة احتياجات الطلاب ومتطلبات المرحلة، ومن جملة هذه الاختلالات: ضعف التنسيق مع الدول التي تُمنح لها بلادنا، وقلة الاهتمام بالطلاب في الخارج خلال فترتهم الدراسية.
وأضاف: لمسنا ذلك الإهمال في وضعية الطلاب المعيشية في الدول التي يقطن فيها عدد كبير من الطلاب كالسنغال وتونس وتركيا والمغرب والجزائر، ولمسناه مؤخراً بشكل فج ومتكرر في أزمتي طلاب الجزائر والمغرب بانعدام تصاريح سفر خاصة بالطلاب تمكنهم من التنقل بين موريتانيا والجارتين، وتكررت الأزمة في لبوس جديد مع الطلاب الممنوحين هذا العام إلى المغرب والجزائر، حيث لم ترصد الوزارة في الوقت المناسب قرار الدول بتعليق استقبال الوافدين، ولم تحسن التكيف مع الحدثين بخلق بدائل مناسبة أو تخفيف حجم الضرر تخفيفاً مقبولاً ولائقاً، مؤكداً أنهم يحملون الوزارة كامل المسؤولية عن مستقبل الطلاب الموريتانيين، ويطالبون بإيجاد حل سريع لأزمة الطلاب الموريتانيين بالمغرب والجزائر.
وفي الختام، يمكن القول: إن النقابات التعليمية الموريتانية تكاد تجمع على أن واقع التعليم بالبلاد في الحضيض، وأن المشكلات التي يعاني منها لا يمكن أن تُحصى أو تُعَد، وأن الاحتجاجات لم تساهم في حل المشكلات الموجودة بالشكل المطلوب، إلا أنها ساهمت في لفت انتباه الحكومة إلى ضرورة تطوير هذا القطاع المهمة والرقي به نحو الأفضل، فهل ستُصلح الاحتجاجات ما أفسدته الحكومة؟