لا بد من الفصل بين أصول الدين بأحكامه ومفاهيمه وشرعه، وصور التطبيقات والممارسات التدينية الواقعة من المسلمين، ذلك أن صور التطبيقات والممارسات تقارب الحقَّ أو تحيد عنه بحسب مدى صحة وعمق فهم أصحابها، والمرارة التي تسود نفسيّة المسلمين عند عرض أحكام الشرع ومفاهيمه عليهم لها سببان رئيسان:
1– سوء تصوّر التطبيق لأحكام الشرع:
فإذا قيل مثلًا “إن الشرع يأمر ببرّ الوالدين”، امتعض السامع أو القارئ؛ لأن التصور الذي يرتسم في ذهنه لتطبيق ذلك البر فيه من مكامن الخلل والفساد ما يعكّر عليه إمكان هضم الأمر بدايةً والامتثال له انتهاءً، وسوء تصوّر التطبيق ينشأ بسبب الجهل بالحدود الشرعية لتطبيق الأحكام والأوامر الشرعية، فلا يتضح لصاحبها ما له وما عليه من حقوق، فإما أن يشتطّ في مطالب غير مشروعة (ممكنة واقعيًّا) ولا شرعية (واجبة شرعًا)، أو يتفانى في عطاء تفانيًا غير مطلوب كذلك شرعًا ولا عرفًا، وفي مثال برّ الوالدين، يذيع تصوّره على أنه الخنوع التام والانقياد الأعمى لهما ولو فيما يضرُّ بالنفس، وامتناع أي معارضة أو اختلاف معهما في رأي أو قرار.
السبيل الوحيد لانضباط حياة المسلم ومعاملاته أن يُقبِل على فهم شرع الله تعالى فهمًا صحيحًا يجمع بين العلم بالحق وحقّ العلم
لكن من يعتني بدراسة الشرع فقهه وآدابه سيقف على التصور الصحيح لبرّ الوالدين، وسيجد فيه: السياسة والمداراة، وطلب مصالح النفس مع حفظ حدود الأدب، والمراضاة التي مهما كانت شاقة ومتعبة فإنها ليست مستحيلة، من ذلك –مثلًا– ما رُوي عن الإمام أحمد بن حنبل: “أن رجلًا سأله: “إني أطلب العلم، وإن أمي تمنعني من ذلك، تريد أن أشتغل في التجارة”، فقال: “دارِها وأَرْضِها، ولا تَدَع الطلب” [الآداب الشرعية 2 /35]، والمداراة هنا تعني عدم المواجهة بما يُكرَه، مثل هذه النصيحة الوجيزة تَرِد ضمن تصوّر متكامل من نصوص الشرع الأخرى، وستفيد عند التطبيق العملي خطواتٍ مثل: عدم الدخول المباشر في نقاشات محتدمة لإقناع الوالدين بالقوّة برغبات الولد (في هذا المثال رغبة طلب العلم) إذ لا يشترط اتفاق قناعاتهما مع قناعات الأولاد في كل شيء على الدوام، وعدم التدقيق في تعليقاتهما والتفرّغ للردّ على كل كلمة أضعافها، وتمرير ما يقولانه والتجاوب معهما عامة بالحسنى ولو بالإعراض والانصراف لموضوع آخر، وكذلك التفكير في حلول وسط ترضي الطرفين قدر الإمكان (كالاشتغال بالتجارة أو حرفة ما في هذا المثال ولو دوامًا يسيرًا فيرضيهما ذلك ولا يعوق طالب العلم بالكليّة عن طلب العلم)… وهكذا.
ومثل آخر أورده ابن رجب رحمه الله في “جامع العلوم والحكم”، عند شرح الحديث الحادي عشر “دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك”: “وَسَأَلَ رَجُلٌ بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ وَأُمُّهُ تَأْمُرُهُ بِطَلَاقِهَا، فَقَالَ [بِشر]: إِنْ كَانَ بَرَّ أُمَّهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ بِرِّهَا إِلَّا طَلَاقُ زَوْجَتِهِ فَلْيَفْعَلْ، وَإِنْ كَانَ يَبِرُّهَا بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ، ثُمَّ يَقُومُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أُمِّهِ فَيَضْرِبُهَا، فَلَا يَفْعَلُ” ا.هـ، تأمل في هذا الفهم السِّويّ والمُنصِف للمسؤولية، إذ ما جدوى الإبقاء الظاهري على حلقة يتيمة –أي طاعة الأم في طلاق زوجته- في سلسال متصل من العقوق فيما هو أوجب وأولى؟
2- سوء صور التطبيق لأحكام الشرع:
وذلك لأن السامع أو القارئ لحكم ما يستحضر في ذهنه صورًا مخزونة مُسبقًا مُستقاة مما شَهِد وشاهد من ممارسات وتطبيقات، هي في الغالب جائرة وحائدة عن مراد الشارع وإن كانت تقع باسمه، فالتي تنشأ في بيت يتسلّط فيه الأب على زوجته وأولاده باسم الشرع وتعظيم حرمات الله –مثلًا– سيحوك في نفسها ما تقرأ أو تسمع عما جعل الله للزوج من مكانة وحقٍّ معظَّم على الزوجة، ولعلها تسائل نفسها: كيف يجعل الله للزوج القوامة والمكانة على الزوجة وكثير من أزواج اليوم لا رجولة فيهم إلا أن يتسلطوا على من يلونهم تسلطًا ظالمًا؟! وبالمثل، من تربّى على يد أمٍّ آذته بدنيًّا أو معنويًّا أو كليهما معًا، سيجد في نفسه من أحكام الشرع في برّ الوالدين وما جعل للأم خاصة من مكانة وعظيم حق ولو لم تقم بحق الأمومة وممارستها على وجهها!
والحل لمثل هذه العقدة يكون:
أوّلًا- باستحضار ما سبق بيانه من لزوم احترام شرع الله الحق والإذعان له، والتفرقة بين كمال تشريع المولى -الذي سيتجلى على أرض الواقع لو أن كل فرد التزم ما عليه وفهم ما له دون شطط– ونقصان سوء أو عدم انضباط المنتسبين للإسلام به، والذي لا يغضّ أبدًا من كمال ذلك الشرع وإحكامه في أصله.
كل طرف من أطراف معاملة ما يُحاسَب وحده أمام الله تعالى ولا يؤاخَذ مُحسِن بجريرة مُفرِّط
ثانيًا- بفصل جهتي النظر، فكل طرف من أطراف معاملة ما يُحاسَب وحده أمام الله تعالى، ولا يؤاخَذ مُحسِن بجريرة مُفرِّط كما لا يُعفى عن مُفرّط بإحسان مُحسن، فكما أن الزوجة والابن محاسبان في هذين المثالين على جهتيهما، كذلك الزوج والأم، والله تعالى أعدل العادلين قطعًا وأرحم الراحمين أبدًا:
فما من ظالم إلا وسيُقتصّ منه: “يَقْتَصُّ الْخَلْقُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، حَتَّى الْجَمَّاءُ مِنْ الْقَرْنَاءِ، وَحَتَّى الذَّرَّةُ مِنْ الذَّرَّةِ” [أحمد]، ” لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ” [مسلم]، “إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ” [البخاري].
وما من مظلوم إلا وسيُنتَصر له: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]، “من اقتطع حقَّ امرئٍ مسلمٍ بيمينِه حرَّم اللهُ عليه الجنةَ وأوجب له النارَ، فقال رجلٌ: وإنْ شيءٌ يسيرٌ؟ قال: وإنْ قضيبٌ من أراكٍ” [مسلم]، ” دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرًا، ففجوره على نفسه” [أحمد].
وما من مبتلى إلا وسيُصَبّ عليه الأجر صبًّا: “يَوَدُّ أَهلُ العَافِيَةِ يَومَ القِيَامَةِ حِينَ يُعطَى أَهلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَو أَنَّ جُلُودَهُم كَانَت قُرِّضَت فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ” [الترمذي].
وإن الله تعالى عليم بمدى مكابدة من يجاهد لامتثال أمره تعالى ومراعاة حدوده فيمن لا يتّقي اللهَ فيه، فلا يستوي في الأجر والمثوبة من هو بارّ بوالدين مُحسِنَين له فالبرّ موافق لهواه، ومن هو بارّ بوالدين عاقَّيْنِ له فبرّهما مخالف لهواه، وإنما الأجر على قدر مشقة المجاهدة التي يجدها العبد في محاولة طاعة الله والتزام أمره، ولكلٍّ نصيبه من مشقات ومكابدات وابتلاءات الحياة؛ فلا تجتمع لأحد المحاسن كلها ولا يخلو أحد مما أخبر الله به من بلاء سيلحق كل عبد بمقدار: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155].
من جهة أخرى، لا بد لكل مسلم من العلم بأحكام الشرع وحدود تطبيقها، حتى لا يُوقِع نَفسَه بنَفسِه ضحيةً في علاقة يظنّ أن تعبّده لله في الصبر عليها، والحق أنه مأمور بطلب الخلاص منها! كمن يصبِّر نفسه –مثلًا- وسط أصدقاء سوء بدعوى الوفاء للعِشْرة، أو مَن تَصبِر على زوج ممّن لا يجوز الصبر عليهم بدعوى كرامة الزوج وغلظة ميثاق الزوجية وبغض الله للطلاق وإن حَلَّله! مثل هذه موازين مختلة وأفهام غير منضبطة بحدود الشرع وإن قامت على مفاهيم صحيحة في أصلها، ولذلك يلتبس على أصحابها الأمر فيظنون أن سعيهم لطلب الفرج تمرّد على القدر، وأنّ خنوعهم للقهر تعبّد للقهّار، وأن صبرهم على أذى يقدرون على رفعه صبر محمود ومطلوب… وهكذا!
يجب ألا يؤاخذ الدين بجرائر التديّن، وليس ثمّة إسلام وسطيّ وإسلام متطرّف وغير ذلك بل الإسلام واحد والحقّ واحد
وإن السبيل الوحيد لانضباط حياة المسلم ومعاملاته على أمر الله تعالى -إذا كان مبتغيًا وجه الله تعالى- أن يُقبِل على فهم شرع الله تعالى فهمًا صحيحًا يجمع بين العلم بالحق (أي بعمق وتكاملية) وحقّ العلم (بتصديق كلام الله واليقين بوعوده)، ويصبر ويصابر في ذلك حتى يستقيم له تصور متكامل بحدود واضحة المعالم وموازين متوازنة الكفوف، فإذا اتضحت الرؤية على هذا النحو، ووَقَر في نفس العبد أن الذي خلقه هو الذي كلَّفه وهو الذي يحاسبه حسابًا عادلًا بل وكريمًا، كان أثبت عزمًا وأقْدَر نَفسًا على المجاهدة في معاملة مختلف أصناف الناس بأمر الله ولو خالفوه هم، وعلى حسن إدارة علاقاته المختلفة فلا يَجور وكذلك لا يُجار عليه ما أمكن.
الخلاصة: يجب ألا يؤاخذ الدين بجرائر التديّن، وليس ثمّة إسلام وسطيّ وإسلام متطرّف وغير ذلك، بل الإسلام واحد والحقّ واحد، وإنما الأفهام هي التي تصيب فترشُد بِهَدْيِه، أو تخطئ فتحيد عن هَدْيِه، والذي يوصف بالوسطية أو التشدد أو التطرّف وما أشبه هو خطاب الدعوة ومنهج الفهم ونهج التديّن، وليس الدّين.
________________________
(*) المصدر: موقع بصائر.