جددت دار الإفتاء المصرية قبل أيام فتوى جواز فوائد البنوك، ودعت المصريين للتعامل معها، رغم الحظر المتواتر من علماء وهيئات واقتصاديين.
ويرى خبير اقتصادي بارز تحدث لـ”المجتمع” أن تلك الفتوى تكشف عن تأزم اقتصادي، وعادة ما تتكرر في وقت الأزمات الاقتصادية في ظل عدم استقلال بعض جهات الفتوى في مصر.
ووفق ما تم رصده، فقد خالفت فتوى دار الإفتاء الأخيرة فتاوى كثيرة لعلماء كبار من الأزهر الشريف ودار الإفتاء نفسها في أوقات سابقة حول حرمة فوائد البنوك، لكن شيخ الأزهر د. أحمد الطيب يقر بوجود اضطراب في الفتاوى ما بين تحليل وتحريم، سيحاسب الله عليه الجميع.
ويرجح مراقبون أن البعد عن شبهة الربا والتمسك بالذهاب للبنوك الإسلامية سيظل رائجاً بمصر لاعتبارات عقائدية وثقافية، ولعدم ثقة عموم المواطنين في بواعث تلك الفتاوى.
الصاوي: فتوى يتم تكرارها وقت الحاجة وتكشف التأزم الاقتصادي
تأزم اقتصادي
ويرى الخبير الاقتصادي عبدالحافظ الصاوي، في حديث لـ”المجتمع”، أن تكرار إصدار الفتوى رغم تواتر الحظر الديني في فتاوى كثيرة أخرى تحظر فوائد البنوك الربوية هو تكرار كاشف عن تأزم الدولة المصرية تمويلياً واقتصادياً، فالفتوى، وفق ما يرى، تصدر في وقت الحاجة الاقتصادية لها من الدولة وقت الأزمات التمويلية.
ويرجح الصاوي أن تلك الفتوى لن تغير من الكتلة المحافظة على التعامل مع البنوك الإسلامية، بل قد تؤدي إلى زيادتها، خاصة في ظل ريبة المواطن من تكرار الفتوى مع تجذر أصول التدين في التربة المصرية، مؤكداً أن هذا الكلام ليس من قبيل العاطفة، ولكن من واقع دراسة صادرة من مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية في عام 2000.
ويوضح أن الأكاديمي د. سامر سليمان لاحظ أنه في إحدى السنوات قلَّت عوائد البنوك الإسلامية عن غيرها من البنوك، ولكن فوجئ بأن هناك ثباتاً في الكتلة المحافظة على البنوك وعدم تناقصها، وتوصل إلى أن هؤلاء المودعين تحكمهم جوانب عقائدية وجوانب خاصة بالشريعة الإسلامية ولن يتركوا مواقعهم طبقاً للحسابات الاقتصادية المادية.
ويشير الصاوي إلى أن هناك أزمة ثقة بين عموم المواطنين والمؤسسات الدينية الرسمية، وبخاصة في ظل إصدار بعض الفتاوى الشاذة، وبالتالي يأتي المردود الاقتصادي لتلك الفتاوى بمردود عكسي في ظل اقتناع رائج لدى المواطنين بعدم استقلال تلك المؤسسات؛ ما يجعلهم في اتجاه متجدد للبنوك الإسلامية خوفاً من شبهة الربا وعواقب الفوائد السيئة من المنظور الديني أو في اتجاه الحفاظ على مدخراتهم في بيوتهم أو استثمارها على وجه آمن مع من يعرفون.
علماء كبار بالأزهر ودار الإفتاء أصدروا فتاوى متكررة بالحرمة
انتقادات لاذعة
ووفق رصد مراسل “المجتمع”، فقد شهدت مواقع التواصل الاجتماعي بمصر غضباً واسعاً تجاه فتوى دار الإفتاء المصرية بإباحة الفوائد، شارك فيه اقتصاديون بارزون وعلماء.
من جانبه، أعرب أستاذ التمويل والاقتصاد الإسلامي رئيس الأكاديمية الأوروبية للتمويل والاقتصاد الإسلامي د. أشرف دوابه عن تعجبه من استمرار إباحة فوائد البنوك بالتدليس.
وقال، في تدوينة عبر حسابه الرسمي على موقع “فيسبوك”: أتعجب من الجرأة على الله بإباحة فوائد البنوك تدليساً باسم عقد جديد تارة وعدم تخصص وفهم لحقيقتها، أو باسم التضخم التي هي من أسبابه الرئيسة تارة أخرى، وقد رددت على ذلك بالحجج الشرعية والاقتصادية في كتابي “فوائد البنوك” عام 2008، والعاقل من جعل حجاباً مستوراً بينه وبين كبيرة أعلن الله تعالى الحرب على فاعلها.
ووصف دوابه، في تدوينة أخرى، من يقول بأن أدوات البنوك الإسلامية لا تختلف عن أدوات البنوك التقليدية، بأنه يمارس تدليساً ممقوتاً.
كما انتقد بعض المنتسبين للمصرفية الإسلامية الذين يتفاخرون بمعدلات نموها كماً ويتجاهلون وضعها المزري والتحايلي كيفاً، بحسب تقديره.
ورفض وكيل اللجنة الدينية بمجلس النواب في العام 2012 مستشار وزير الأوقاف السابق د. محمد الصغير فتوى دار الإفتاء.
وقال، في تدوينات عبر صفحته الرسمية على موقع “فيسبوك”: دار الإفتاء الحالية تبدل أحكام الشريعة وتحلل الربا، وتخالف ما استقرت عليه الفتوى في دار الإفتاء المصرية في عهودها الزاهرة.
وأضاف أن فضيلة الشيخ الشعراوي، ود. أحمد طه ريان، شيخ المالكية، يحرمان ربا البنوك، في أبلغ رد على ما يسوق له الموظفون في دار الإفتاء الحالية، وفق تعبيره.
ونشر الشيخ الصغير كذلك فتوى لمفتي الديار المصرية الراحل بكري الصدفي عن حرمة فوائد البنوك.
دوابه: أتعجب من الجرأة على الله بإباحة فوائد البنوك تدليساً
مخالفة لفتاوى متكررة
وأعلنت دار الإفتاء المصرية فتوى حول إباحة فوائد البنوك 3 مرات على الأقل في الفترات الأخيرة، مبررة ذلك بأنه نوع من العقود المستحدثة والمسائل الخلافية، وسط موجة من الانتقادات الدينية.
وكررت الدار في فتوى، نهاية يوليو الماضي، ما سبق وأعلنته في مارس الماضي، وفي العام 2019، من جواز التعامل مع فوائد البنوك.
وفي المقابل، تداول مصريون بكثافة فيديوهات ونصوصاً مصورة لفتاوى من مشيخة الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية نفسها في أوقات سابقة تحرم فوائد البنوك، وسط استنكار واسع لما تقوم به دار الإفتاء حالياً من إصدار لهذه الفتوى.
وكان شيخ الأزهر السابق الشيخ د. جاد الحق علي جاد الحق (5 أبريل 1917 – 15 مارس 1996) أصدر فتوى في عهده حول إيداع الأموال في البنوك، حرم فيها ما هو مجمع عليه من رفض الفوائد الربوية.
وقال جاد الحق، في فتواه: إن الاستثمار بإيداع الأموال في البنوك بفائدة محددة مقدماً أو بشراء شهادات الاستثمار ذات الفائدة المحددة مقدماً قرض بفائدة، وبهذا الوصف تكون الفائدة من ربا الزيادة المحرم شرعًا، أما الاستثمار دون تحديد فائدة مقدمًا بل يبقى خاضعًا لواقع الربح والخسارة كل عام فهو جائز شرعًا، لأنه يدخل في نطاق عقد المضاربة الشرعية، والربح والاستثمار بهذا الطريق حلال.
وأضاف: العائد من الاستثمار بالطريق الأول حرام، باعتبار أن فائدة الشهادات محددة مقدماً فهي من ربا الزيادة، وبالطريق الآخر حلال، باعتبار أن الربح غير محدد بل يتبع الواقع من ربح وخسارة، ويتعين على المسلم أن يتخلص من الفائدة المحرمة بالتصدق بها ولا تجب عليها زكاة.
الصغير: دار الإفتاء الحالية تخالف ما استقرت عليه الفتوى
وأفتى الشيخ العلامة الراحل محمد متولي الشعراوي بحرمة فوائد البنوك الربوية.
وتداول مدونون ومغردون مصريون نصوصاً لفتوى دار الإفتاء منها الصادرة في أعوام 1979، و1980، و1981، وكلها تنص على اعتبار شهادات الاستثمار وصناديق التوفير ما هي إلا قروض، وفائدتها ربا محرم، لا فرق بين الأفراد والدولة في ذلك.
ومن الفتاوى المرئية الرائجة، وفق ما هو مرصود، فتوى لشيخ المالكية عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف العميد الأسبق لكلية الشريعة والقانون بالأزهر د. أحمد طه ريان، التي تؤكد حرمة فوائد البنوك الربوية.
وشهدت مصر في العام 2007 جدلاً مشابهاً، حيث نشبت معركة حامية بين جبهة علماء الأزهر وشيخ الأزهر الراحل د. محمد سيد طنطاوي حين أباح فوائد البنوك بعد سابق إعلانه حرمتها أثناء توليه مسؤولية دار الإفتاء، بحسب بيان لجبهة العلماء.
ووفق المعلومات التي جاءت في بيان الجبهة المتداول إعلامياً، فقد أصدر طنطاوي فتوى رقم (41/ 124) المسجلة في فتاوى دار الإفتاء، بتاريخ 20 فبراير 1989 التي أكد فيها حينما كان مفتياً للجمهورية، أن فوائد البنوك ربا محرم شرعاً قائلاً: “لقد أجمع المسلمون على تحريم الربا، والربا في اصطلاح فقهاء المسلمين هو زيادة في معاوضة مال بمال دون مقابل”.
وأضاف طنطاوي، في فتواه: “تحريم الربا بهذا المعنى أمر مجمع عليه في كل الأديان السماوية، ولما كان إيداع الأموال في البنوك أو إقراضها أو الاقتراض منها يأتي صورة من الصور مقابل فائدة محددة مقدماً زمناً ومقداراً يعتبر قرضاً بفائدة، وكل قرض بفائدة محددة مقدماً حرام شرعاً”.
الجبهة وقتها طالبت د. سيد طنطاوي بالتراجع عن تلك الفتوى ولكنه توفي في العام 2010، دون تغيير للفتوى.
الطيب: الربا حرام والمعاملات البنكية باتت محل صراع فقهي والله سيحاسبنا
اضطراب سيحاسبنا الله عليه
من جانبه، صرح د. أحمد الطيب، شيخ الأزهر، بأن الربا من المعاملات المحرمة شرعاً بجميع اتفاق العلماء لوجود النصوص الشرعية الثابتة التي لا تقبل الاجتهاد.
وأوضح شيخ الأزهر، خلال حلقة برنامج “الإمام الطيب” في وقت سابق، أنه حتى الآن لم يتم الاتفاق على إباحة المعاملات البنكية الحديثة، فالبعض يرى أنها ربا والبعض يؤكد أنها حلال.
وقال الطيب: حينما كنت مفتياً لدار الإفتاء، كانت تأتي إلينا كل أسبوع فتوى عن حكم فوائد البنوك، فاضطررنا إلى أن نفتي للسائل إذ أودعت أموالك بنية أنك تقرضها للبنك وتحصل منه على فائدة فهذا حرام لأنه يكون ربا، أما إذا كنت تستثمرها في البنك وتعتبره شريكًا فيكون حلالًا.
وأضاف أن هذا رأي دار الإفتاء المصرية إلى وقتنا الحالي، ولكن هناك مجامع فقهية في دول أخرى ترفض الفتوى، وترى أن المعاملات البنكية ربا، مؤكداً أن قضية المعاملات البنكية أصبحت صراعاً فقهياً، وأعتقد أن الله سبحانه سيحاسبنا يوم القيامة على الاضطراب الشديد في مجال الفتوى ويعاني منه المسلم الآن.