في عالم أصبح يسيطر عليه المادة، يعيش الناس أسرى للحسابات القلقة بشأن ما ينعمون به من لذات ومُتع رفاهية، وأصبح العمل كدحاً ليس من أجل كسب الرزق، وإنما سعي لتوسعة الرزق وتحقيق رغد العيش، فلم تعد الأساسيات هي المبتغى كما كانت دائماً، بل أصبح الإنسان في شغل دائم لتحقيق مزيد من الرفاهية.
وتشير كلمة «رفه» في اللغة العربية إلى سعة الرزق ورغد العيش، بينما يدل المصطلح على ما هو زائد عن الحاجات الأساسية، فكل ما هو ثانوي وغير مهم لحياة الإنسان يعتبر من سبيل الرفاهيات، ومن هنا تكمن إشكالية فكرة الرفاهية في نسبيتها المطلقة، فما يحقق للإنسان الرفاهية قد يختلف من شخص لآخر ومن منطقة لأخرى ومن بلد لآخر، كما يظهر فخ الرفاهية في اطرادها المستمر، فكل يوم هناك مزيد من الأشياء المنضمة إلى قائمة الرفاهية التي تتسم باللانهائية.
وبينما عاش الناس على مر العصور راضين بما في أيديهم، إذ فرضت فكرة الطبقية وعدم التساوي بين الناس أن يقبع كل فرد في مكانه الذي ولد فيه، فالملوك والنبلاء في قمة الهرم، والفلاحون والصناع في قاعدته، فقد برزت في العصر الحديث صعوداً من القرن الثامن عشر فكرة مفادها إمكان وصول الجميع للثراء والرفاهية إذا ما أُتيحت لهم فرص متساوية، ومن ثم خلقت المساواة التي تنامت يوماً بعد يوم في سائر أنحاء العالم –على الأقل على المستوى الفكري– اعتقاداً مهماً بأنه لم يعُد هناك عذر في أن يكون المرء فقيراً، ووجب على كل إنسان أن يدخل في صراع دائم للهرب من دائرة الفقر، وإذ تنهض الرفاهية بالأساس كمؤشر أساسي على الثراء وعلو المكانة، فقد أصبحت الرفاهية مطلباً جوهرياً لكل فرد في المجتمع، يبتغي اقتناص مزيد منه يوماً بعد يوم لتحقيق مكانته في المجتمع، وتوفير مظهرية تنبئ عن مدى نجاحه في الحياة بعد أن أصبح النجاح مقياسه الوحيد هو المال والرفاهية؛ مما خلق سعياً دائماً ومحموماً لتحقيق مزيد من المكانة الاجتماعية والاحترام عبر تحقيق مزيد من الثروات ومراكمة الأموال دون نهاية ترتجى كمطاردة السراب في الصحراء الجرداء.
الطريق إلى الرضا
تُنبئ التحديات الجمة التي يفرضها عالم اليوم من تنافسية محمومة ورفاهيات متجددة يوماً بعد يوم، وقلق متنامٍ عن مكانة كل إنسان بين أقرانه مترجمة في مفردات مالية إنفاقية بالأساس، كل تلك التحديات تشكل عوائق حقيقية ومتجذرة أمام الرضا؛ لذا فإن السعي نحو الرضا ليس طريقاً مفروشاً بالورود، وإنما خيار شاق يحتاج إلى عملٍ مضنٍ وكفاح دائم لكي يتمكن الإنسان من أن ينال مبتغاه، ولتحقيق تلك الغاية الرضائية ينصح الخبراء النفسيون بمجموعة من الوسائل المهمة، وهي:
1- التخلي عن المقارنة:
في كتابه «قلق السعي إلى المكانة»، يشير آلان دو بوتون بأن أبرز مصادر القلق التي تنتاب الإنسان المعاصر عقد المقارنات المستمرة بين الشخص وأقرانه بالأساس، فكل نجاح يحققه من هم في نفس مستوانا الاجتماعي تهديد محتمل يقض مضجعنا، وكل منجز لأندادنا فشل لنا، وقد وسعت وسائل التواصل الاجتماعي من ذلك الأثر المدمر للمقارنة، فأصبح في متناول كل إنسان اتصال دائم بما وصل إليه الآخرون من إنجازات في أعمالهم ونجاحات في حيواتهم، وبذلك أصبحت المقارنات منعقدة على الدوام، وأصبحت مطاردة ما لدى الآخرين هدفاً دائماً، وهو ما يعيق تحقق الرضا كلياً ويدمر الإنسان مسقطاً إياه في دائرة من الاكتئاب والقلق، والسبيل الوحيد للتخلص من ذلك التأثير السلبي التوقف عن عقد المقارنات مع الآخرين، وعدم الانخداع بمظاهر منصات التواصل الزائفة التي لا تعطي الصورة الكاملة عن الآخرين.
والمقارنة الوحيدة التي ينصح بها الخبراء مقارنة الإنسان بنفسه في الماضي، فكل خطوة يحققها الإنسان بتقدمه في العمر مقارنة بما كان عليه فيما مضى نجاح خليق بالفخر، إذ إن مقارنة الإنسان بآخرين لا تنطبق عليهم نفس الظروف والملابسات تصبح غير منطقية ولا تؤدي إلا إلى الاكتئاب والشعور بالخزي من النفس، بينما مقارنة الإنسان بنفسه مقارنة عادلة تُمكِّن الإنسان من تحقيق النجاح والتقدم باستمرار.
2- التحلي بالإيمان:
إن من أبرز الطرق الناجعة للرضا هي التسليم، وجوهر الإسلام هو أن يسلم الإنسان أمره إلى الله، تاركاً مصيره بيد المدبر الحكيم، الذي يحكم بين الناس بالقسطاس المستقيم، ويدبر شؤونهم بما يحقق نفعهم وصلاحهم، فالله سبحانه وتعالى قد قسم الأرزاق وقدر الأقدار، وهو القاهر فوق عباده، والاستعانة الدائمة بالله والتسليم له هي الملجأ الوحيد من أسر القلق الداهم الذي يسيطر على الحياة المادية الطاحنة، ويبعث الطمأنينة في النفوس عبر التصديق واليقين.
3- السعي دون إدراك النتائج:
وإلحاقاً بالنقطة السابقة المتعلقة بالتسليم الإيماني لله ومقاديره وحكمته وتدبيره، تأتي فكرة السعي دون إدراك النتائج، فالإيمان تصديق بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح، لذلك فإن السعي والعمل ركن من أركان الإيمان الحق الذي به يكتمل وفيه يتحقق، ويحض الإسلام على السعي الدائم والعمل الدؤوب ثم التوكل على الله، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) (الكهف: 30)، (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة: 105)، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97)، وفي الهدي النبوي يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: «أنه لا تزولُ قدمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يسألَ عن عمُرِه فيمَ أفناه، وعن علمِه فيمَ فعَل، وعن مالِه من أين اكتسَبه وفيمَ أنفقَه، وعن جسمِه فيمَ أبلاه»، وفي حديث آخر «إن قامتِ الساعةُ وفي يدِ أحدِكم فسيلةً، فإن استطاعَ أن لا تقومَ حتى يغرِسَها فليغرِسْها»، في إشارة واضحة لوجوب السعي وترك النتائج إلى تقدير المولى سبحانه وتعالى.
4- العيش في الحاضر:
لم يكن الناس أكثر اغتراباً عن حاضرهم من العصر الراهن، فقد صار التفكير الدائم في المستقبل هو سمة العصر الرئيسة، وأصبح السعي الدائم نحو خلق مستقبل أكثر رفاهية وسعة هو الشغل الشاغل لكل إنسان، وهو ما حجب عن كثيرين رؤية الحاضر والاستمتاع به، وفوت على الإنسان رؤية ما بين يديه من نعم حاضرة ابتغاءً وتطلعاً نحو رفاهيات محتملة أو فتوحات منتظرة، وجعل الحياة مطاردة مستمرة للغيب المجهول بديلاً عن عيش الحياة اليومية.
وقد ورد في مُحكم التنزيل عظة إسلامية خاصة بشأن الإقبال الدائم على الدنيا والانشغال بشؤونها بشكل مبالغ فيه والانغماس في ملذاتها، ويقول الله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد: 21).
وإذ ينبع الانشغال بالحياة الدنيا غالباً من التفكير في الغد بالأساس وما قد يدخره الإنسان من متاع الدنيا لمجابهة أخطار المستقبل المجهول، فإن الإسلام قد حض على الاكتفاء باليوم الحاضر، ونهى عن الانشغال بالمستقبل الدنيوي لصالح الاهتمام بالمستقبل الأخروي ومصير الإنسان بعد الموت، والعمل لتلك الحياة الدائمة وليس الحياة الدنيا الزائلة.