الإنسان الفرد هو أساس المجتمع وعماده الأول، ومحور هذا الكون، وأهم لبنة في صرحه الشامخ، وبنيانه السامق، فهو مدني واجتماعي بطبعه، يبدأ حياته بمركب مزدوج؛ أبيه وأمه؛ لذا فالأسرة هي المحضن الأول.
وهو كذلك ابن بيئته وأسرته؛ فهي تؤثر في تكوين سلوكه وأفكاره وقيمه وعاداته ودينه وثقافته ولغته، وهي الأرض الخصبة التي يمكن أن نزرع فيها كل معاني الحب والرحمة والفضيلة في نفوس الناشئة.
الطاووس طائر يجمع بين الجمال والدلال؛ الجمال في هيئته، والدلال في مشيته، يتحرك بعزة وأناة، ويمشي بعُجْب واختيال، فقلَّده بنوه فسطَّر الأصمعي شعراً يعتبر من روائع الأدب الرمزي:
مشى الطاووس يوماً باختيال فقلَّد شكل مشيته بنوهُ
فقال علامَ تختالون؟ قالوا بدأت به ونحن مقلدوهُ
فخالف سيرك المعوجَّ واعدل فإنَّا إن عدلت معدلوهُ
أما تدري أبانا كل فرع يُجاري بالخطى من أدّبوهُ
وينشأ ناشئُ الفتيان منَّا على ما كان عوَّده أبوهُ(1)
ومن عالم الحيوان إلى دنيا الناس، حيث إن العقلاء يقررون أن الإنسان ابن بيئته، وأن الشيء من معدنه لا يُستغرب، دارت هذه المعاني في خاطري عند معايشة قول الله تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾ (الأعراف: 58)، يقول العلَّامة ابن جرير الطبري عن تفسيرها: «والبلد الطيبة تربته، العذبة مشاربه، يخرج نباته إذا أنزل الله الغيث وأرسل عليه الحياة بإذنه، طيباً ثمره في حينه ووقته، والذي خبث فرُدِئت تربته، وملحت مشاربه لا يخرج نباته إلا نكداً؛ يعني إلا عسراً في شدة»(2).
الرجل الصالح يُحفظ في ذريته بسبب حسن التربية والتهذيب والتوجيه
إيحاءات القرآن الكريم ودلالته
من الإيحاءات القوية والدلالات العميقة التي تومئ إلى هذه المعاني السابقة قول الله تعالى: (وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً {26} إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً) (نوح)، (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً) (الكهف: 82)، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (الطور: 21).
في الآية الأولى دليل على أن الحية لا تلد إلا حيية، وأن الأصل المعيوب لا يُسفِر عن أثر خالٍ من العيوب، «فقد أُلهم قلب نوح أن الأرض تحتاج إلى غسل يطهر وجهها من الشر العارم الخالص الذي انتهى إليه القوم في زمانه، وأحياناً لا يصلح أي علاج غير تطهير وجه الأرض من الظالمين؛ لأن وجودهم يجمّد الدعوة إلى الله نهائياً، ويحول بينها وبين الوصول إلى قلوب الآخرين، ثم إنهم يوجدون بيئة وجواً يولد فيه الكفار، وتوحي بالكفر من الناشئة الصغار بما يطبعهم به الوسط الذي ينشئه الظالمون، فلا توجد فرصة لترى الناشئة النور من خلال ما تغمرهم به البيئة الضالة التي صنعوها»(3).
وفي الآيتين الثانية والثالثة دليل أكيد على أن الرجل الصالح يُحفظ في ذريته بسبب حسن التربية والتهذيب والتوجيه، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة يوم القيامة لتقر عينه بهم.
بين الفضيل وولده
الفضيل بن عياض قامة من القامات، وسيد من السادات ذاع صيته في الزهد والورع، وسطع نجمه في هجر الحرص والطمع، كان قدوة صالحة لولده، رباه من طفولته على كريم الخصال قبل أن يبلغ مبلغ الرجال، قال له يوماً: لم يتزين الناس بشيء أفضل من الصدق وطلب الحلال، فقال ابنه عليّ: يا أبتِ، إن الحلال عزيز، فقال: يا بني، وإن قليله عند الله كثير(4)، والطفل الذي يتربى على الصدق وطلب الحلال حتماً سيكون له مع الله حال.
عمارة الإنسان تكون من خلال الأسرة فهي البيئة الأولى وحجر الأساس
ظل الفضيل يربي ولده علياً ولكنه مُعْرض عنه، فاستعان بالله وظل يدعو له لمدة ثلاث سنوات وكان يقول في صلاته: «اللهم إني اجتهدت في تربية عليّ فلم أقدر فربِّه أنت لي»؛ فتحول بفضل الله إلى آية في الزهد والعبادة، وكان يصلي حتى يزحف إلى فراشه ثم يلتفت إلى أبيه فيقول: يا أبتِ، سبقني المتعبدون، ومات وهو ساجد في الصلاة، وكان أبوه يقول: رحم الله حبيبي من كان يعينني على الزهد والعبادة، هذه ثمرة طيبة لهذا الغرس المبارك الذي غرسه الوالد بيده فأثمر وأورق، ولا عجب حينئذ عندما يقول عبدالله بن المبارك: «خير الناس الفضيل بن عياض، وخير منه ابنه عليّ»(5)، فصلاح الفرع من طيب الأصل.
رسالة للمربّي
أنت صاحب البصمة الأولى في حياة ولدك.
أنت أول من تُسطِّر بأناملك الكريمة ملامح شخصية ولدك.
أنت أول من توقِّع في دفتر وجود ولدك، فولدك نسخة عن سلوكك.
أنت أول من يبذر في أرضه بذور الفضيلة.
فإياك أن تأمره بالصدق وأنت كذَّاب على وزن فعَّال، أو توصيه بالأمانة وأنت خائن على وزن فاعل، وإياك أن تضع في الميزان ما تخجل منه أمام الديَّان.
فمن المسلَّمات أن الطفل الصغير هو المستقبل بنفسه والتاريخ بعينه، فعلى ولي أمره أن يتقي الله فيه، وأن يجعل حوله سياجاً من التربية والتهذيب؛ «فإن أكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كباراً»(6).
الطفل الذي يتربى على الصدق وطلب الحلال سيكون له مع الله حال
حجر الأساس
هذه حقائق ثلاث في هذا السياق، هي:
أولاً: عمارة الكون تكون بالإنسان الذي به يتحقق منهج الاستخلاف في الأرض.
ثانياً: عمارة الإنسان تكون من خلال الأسرة فهي البيئة الأولى وركن الزاوية وحجر الأساس.
ثالثاً: دور الأسرة سلباً وإيجاباً في توجيه الناشئة والحفاظ على نقاء الفطرة ليل نهار أو الانحراف بها إلى شفا جُرفٍ هار.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والأمِيرُ راعٍ، والرَّجُلُ راعٍ علَى أهْلِ بَيْتِهِ، والمَرْأَةُ راعِيَةٌ علَى بَيْتِ زَوْجِها ووَلَدِهِ، فَكُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عن رَعِيَّتِهِ»(7).
وغريب أمر الوالدين اللذين أهملا وقصَّرا في تربية الأولاد، فوكّلا أمرهم إلى من لا يجيدون صنعاً ولا يقوّمون معوجاً، إهمال.. نعم ولو كان وقتياً، لقد جعل أغلب الناس علاقتهم بالأولاد علاقة طعام وشراب وكساء، أما الرواء العاطفي واليد الحانية والتوجيه والتعليم فيشتكي اليتم في دنيا الناس، وفي تاريخنا الإسلامي نماذج مضيئة نستلهم من مواقفها التربوية دروساً وعبراً للآباء والأمهات لتكون لهم تبصرة وذكرى.
______________________
(1) أرشيف ملتقى أهل الحديث (125/ 334).
(2) تفسير الطبري (12/ 495).
(3) في ظلال القرآن (6/ 3717).
(4) سير أعلام النبلاء (428/ 8).
(5) المرجع السابق.
(6) تحفة المودود بأحكام المولود (299).
(7) صحيح البخاري (5200).