مع إنشاء الكيان الصهيوني في العام 1948م، هُجّر ما يقرب من 700 ألف فلسطيني، خرج هؤلاء على وعد أن تهجيرهم مؤقت، وأنهم سيعودون إلى ديارهم حال تحقيق الجيوش العربية الانتصار على العصابات اليهودية، لكن الخروج كان طويلاً، والعودة تحولت إلى حلم.
لم يستوعب الفلسطينيون في تلك الفترة أن ذلك الخروج والمذابح المروعة التي تعرضوا لها كان أمراً مقصوداً، لتفريغ الأرض من أهلها وسكانها لإتاحة الفرصة أمام اليهود لاستيطان الأرض وإقامة وطنهم المزعوم.
والآن بعد قرابة 8 عقود(1)، تسعى «إسرائيل» لتفريغ غزة من سكانها، من خلال التدمير الممنهج للأرض، فقد دُمر أكثر من 50 ألف منزل في القطاع تدميراً كاملاً، وحُولت الحياة في كثير من مناطق قطاع غزة إلى نوع من الاستحالة، ومع تكرار التهديدات والتحذيرات للسكان بمغادرة منازلهم والتركز في مناطق معينة في جنوب غزة بالقرب من الحدود مع مصر، كل ذلك يعطي مؤشرات أن معالم حرب الإبادة «الإسرائيلية» في غزة من أهدافها الكبرى تهجير أهل غزة، حتى إذا جاءت ساعة الصفر، كان تهجير الغزاويين إلى الخارج سواء إلى مصر أو خارج المنطقة، لا يحتاج إلا لقرار «إسرائيلي»، قد تسبقه مذابح مروعة، لإقناع الغزاويين بضرورة المغادرة والرحيل الدائم، أو استقبال الموت، بعدما ضاقت الخيارات أمام أكثر من مليوني شخص.
الرؤية «الإسرائيلية» والتهجير
مع عملية «طوفان الأقصى»، في 7 أكتوبر 2023م، سعت «إسرائيل» لتحويل غزة إلى كتلة من الجحيم والدمار والقتل الممنهج، والحقيقة أن غزة تشكل قلقاً إستراتيجياً للمشروع الصهيوني، فحجم الكثافة السكانية العالي للغاية، والنضالية الكبيرة التي تتسم بها حركات المقاومة في القطاع، وضيق الخيارات أمام سكان غزة؛ تفاعُل كل ذلك جعل القطاع قنبلة موقوتة في وجه الاستيطان الصهيوني المتوسع، الذي يقضم أراضي القطاع من خلال ما يسمى بـ«غلاف غزة»(2)، الذي تتكاثر فيه عشرات المستوطنات، وأهمها سديروت، ولهذا فإن غزة خطر إستراتيجي على المشروع الصهيوني، وتهدد مستقبل الاستيطان.
حرب الإبادة «الإسرائيلية» على غزة، عقب «طوفان الأقصى»، ما هي إلا محاولة لتسريع عمليات تهجير الفلسطينيين، ونشير هنا إلى كثير من التصريحات والوثائق التي ترى في تلك الحرب فرصة لوضع تهجير سكان القطاع محل التنفيذ، فتؤكد أحدث التسريبات، في مطلع يناير 2024م، أن بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية «الإسرائيلي»، دعا إلى تشجيع سكان غزة على الهجرة إلى دول أخرى، ورأى هذا الوزير المتطرف أن العدد المناسب الذي من المفترض أن يبقى في غزة يتراوح ما بين مائة ألف ومائتي ألف فلسطيني، وأن هذا العدد لن يشكل أي تهديد على «إسرائيل»!
أما إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي، فاعتبر أن الحرب فرصة لتهجير الفلسطينيين، وسربت الصحافة «الإسرائيلية»، مطلع العام الجديد، أن حكومة نتنياهو تُجري محادثات سرية مع بعض الدول الأفريقية مثل الكونغو لتهجير الفلسطينيين إليها، وهو ما ذكره موقع «تايمز أوف إسرائيل» أن «إسرائيل» عرضت على الكونغو مكافآت مالية نظير كل فلسطيني يتم تهجيره.
وثيقة استخباراتية
في 13 أكتوبر، سُربت وثيقة منسوبة للاستخبارات «الإسرائيلية» تطالب بتهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء سواء أكان ذلك بشكل طوعي أو قسري، وأن تكون تلك الهجرة دائمة، وفي 17 أكتوبر 2023م، نشر «معهد مسغاف للأمن القومي والإستراتيجية الصهيونية» دراسة بعنوان «خطة التوطين والتأهيل النهائي في مصر لجميع سكان غزة: الجوانب الاقتصادية» للمحلل الإستراتيجي أمير ويتمان، ذكر فيها أن الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها مصر(3)، قد تكون فرصة لإقناع القاهرة بقبول تهجير الفلسطينيين إليها مقابل حوافز اقتصادية.
الغريب أن تقرير ويتمان أشار إلى أن هناك في مصر حوالي عشرة ملايين وحدة سكنية خالية، وأن تلك الوحدات السكنية الشاغرة قد تساهم في استيعاب هؤلاء المُهَجرين الفلسطينيين.
ولا تكف بيانات الجيش «الإسرائيلي» عن إصدار أوامر لسكان القطاع بإخلاء بعض مناطقهم، فمثلاً تم إصدار أوامر بإخلاء المناطق الشرقية من غزة، مثل الشجاعية والزيتون وجباليا، ويقطن تلك المناطق أكثر من 400 ألف نسمة، وتأتي قرارات الإخلاء مع قصف ومذابح مروعة ضد المدنيين، ونجحت «إسرائيل» في «حشر» أكثر من 1.9 مليون فلسطيني في مناطق محددة في جنوب غزة بالقرب من الحدود مع مصر، وهي أجواء تشجع على انتشار الأوبئة والأمراض.
والحقيقة أن التهجير إحدى أدوات الحرب «الإسرائيلية» على سكان غزة، فبالإضافة إلى تدمير 50 ألف وحد سكنية بشكل كامل، هناك أكثر من 250 ألف وحدة سكنية تضررت بمستويات مختلفة؛ مما يعني أن هناك أزمة سكن هيكلية نشأت في القطاع، وعلاجها يحتاج إلى سنوات طويلة، ومليارات الدولارات، وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن حوالي 1.9 مليون من سكان غزة أصبحوا مشردين وبلا مأوى، وهذا الرقم يزيد على 85% من سكان القطاع، وتأسيساً على تلك المعطيات يمكن فهم ذلك التدمير المنهجي الشامل، باعتباره إحدى أدوات الحرب «الإسرائيلية» لتفريغ القطاع، من خلال تحويله إلى بقعة يصعب العيش والاستمرار فيها، وهو ما يرغم الفلسطينيين على الهجرة.
________________________
(1) كانت غزة تضم حوالي 80 ألف فلسطيني قبل نكبة عام 1948م، لكن بعد عمليات التهجير، حينها، استوعبت أكثر من 200 ألف لاجئ؛ أي ثلاثة أضعاف سكانها مرة واحدة، مما شكل ضغطاً مزمناً على مواردها وكثافتها السكانية.
(2) قسمت «إسرائيل» غلاف غزة إلى ثلاثة مجالس محلية، هي:
– أشكول: وتبلغ مساحته 175 كيلومتراً مربعاً، ويحتوي على 4 بلدات.
– أشكلون: ويضم 32 بلدة، ويمتد على مساحة 380 كيلومتراً مربعاً.
– شاعر هنيغف: ويمتد على مساحة 180 كيلومتراً مربعاً، ويضم 11 بلدة.
ويبلغ عدد سكان بلدات الغلاف بمجالسه الثلاثة 37 ألف نسمة، أما عدد سكان سديروت فيزيد على 27 ألف نسمة.
(3) في مارس 1955م، قاوم الفلسطينيون مشروعاً أمريكياً لتوطين الفلسطينيين في سيناء، حيث خصصت الولايات المتحدة حوالي 30 مليون دولار لتنفيذ المشروع، بدأ المشروع عام 1953م، بتخصيص الحكومة المصرية 250 ألف فدان في شمال غرب سيناء إلى وكالة غوث لتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، وكان الهدف المعلن تخفيض الكثافة السكانية في غزة، لكن الغارة «الإسرائيلية» على القوات المصرية في فبراير 1955م، غيَّرت الموقف المصري نحو دعم الفدائيين الفلسطينيين، وتم تشكيل الكتيبة (141) للفدائيين تحت قيادة الضابط المصري مصطفى حافظ.