العالم يرى مرور عام على “طوفان الأقصى” لكن حقيقة الأمر أن الحسابات مختلفة لأهالي غزة الصامدة الصابرة فهم يرونه أعواما تغيرت بها ملامحهم فقد جمعت بين القوة، والخوف، والجوع، والصبر، والحزن، والموت فكل يوم يمر كان أشبه بأعوام تحت قصف وابل الصواريخ، والأحزمة النارية والمدافع البحرية والاجتياح البري.
لم تكن حربا واحدة أو معركة؛ بل حروب خاضها رجال ونساء وأطفال وحتى أجنة غزة، واليوم من داخل أحشاء غزة أكتب شهادتي لثلاثمائة وخمسة وستين يوما كنت فيها شاهدة على أبشع المجازر التي تفتقد لمعاني الإنسانية أكتب هذه الشهادة تحت القصف العنيف للمناطق الشمالية لقطاع غزة.
السفر المؤجل
لازلت احتفظ بذلك اليوم الذي يسبق السابع من أكتوبر حيث جهزت أوراق سفري منذ شهور فالسفر في غزة ليس بالأمر السهل فلم أكن قد غادرت غزة منذ وفاة والدتي -رحمها الله تعالى- ما يقارب ثمانية أعوام فكنت بحاجة لذلك خاصة بعد أن بقيت في غزة بعد وفاة والدي -رحمه الله تعالى-واستشهاد أخي الأكبر فادي، وحدي بدون عائلة.
فقد اشتاقت نفسي لرؤية شقيقي سامر وأطفاله وشقيقتي رنا وطفلتها فجهزت حقيبة سفري بكل ما فيها من أشياء وهدايا ووضعت في حقيبتي الصغيرة جواز السفر فلم يفصلني الذهاب إلى معبر رفح البري إلا انتظار تاريخ موعد سفري الذي جاء بعد موافقة لجنة الاستعجال خلف شهور طويلة من الانتظار.
كانت أيام قليلة تفصلني إلا أنها حقيقة أخذت شهور بل عام ولازالت حيث جاء موعد سفري مع بداية الحرب كان القرار صعب بين خيار السفر وبين البقاء حيث الرباط والأجر.
حاول شقيقي تكرارا حثي على السفر لكن كنت في كل مرة أخبره بعدم وجود الأمان بالتنقل ولا أخفي حقيقة أنني لم أكن أرغب في السفر في وقت غزة تحتاج أن نسند صمودها في البقاء.
فهذه المعركة أبعادها كبيرة تمثل التمسك بالعقيدة الصحيحة بالرباط فيها قبل أن يكون التمسك في الأرض والوطن فحسب.
قرار البقاء لم يكن بالأمر السهل خاصة أنني فتاة عليها أن تواجه حرب قاسية فقد بها الاحتلال عقله وكل معاني الإنسانية.
طوفان الأقصى
فرحت غزة لـ”طوفان الأقصى” فقد غيرت من خلالها معادلة موازين القوة وهزمت مقولة الاحتلال المزعومة بـ” الجيش الذي لايقهر”.
علمت أن لهذا الفتح ثمنا عظيما حيث بدأ القصف بشكل جنوني على قطاع غزة في مختلف المناطق لم أكن أعلم أين أذهب وأين ممكن أن يتواجد الأمان فكل مكان مستهدف في نظر الاحتلال.
انتقلت لأماكن كثيرة وكل مكان كنت أشهد به أعنف القصف كأنه اليوم الأول للحرب.
تعبت كثيرا وبكيت كثيرا الأمر لم يكن سهلا علي لكن كنت أشعر أن معية الله تحفني أون الله (تعالى) يمدني بالقوة والصبر لمواصلة المسير.
لم أتوقع أن النزوح سوف يطول فكل ما حملته معي مصحفي والأوراق المهمة وقليل جدا من الملابس التي التقطتها يدي سريعا بعد قصف المنطقة التي أسكن فيها.
وبعد تنقلات كثيرة استقر فيه الحال مع بعض الأقارب إلى منزل تجاوز عمره المائة والخمسين عاما بيت مهجور يفتقد لأبسط الأشياء ومع ذلك حاولت التأقلم قدر المستطاع فكلما ضعفت استمسكت بالقرآن الذي كان مؤنسي حقيقة.
قطرات ماء
كنت أحمل زجاجة ماء فيها القليل منه لم أستطع شربها تحسبا لحاجة غيري منها خاصة أنه تواجد بالمكان عدد من الأطفال فهم في نظري الأولى بها.
كانت قريبتي تخبرني بعدم وجود الماء وأن محاولات البحث فشلت رغم ذلك أخبرتها بثقة أن الله(تعالى) سيدبر أمرنا بذلك سألته (سبحانه وتعالى) وبالفعل جاء الماء من حيث لانحتسب فرحت جدا بذلك وصرت أردد بفرح”الله”يدبرها…طلبت قطرات ماء فأسقانا الله بحرا”.
مضت شهور أصبح الجو أكثر برودة ولايوجد ملابس دافئة فلم أكن أملك إلا الجلباب الذي أرتديه وقطع قليلة جدا من الملابس كنت أتناوب بغسيلها فلا بديل عن ذلك ولايوجد أمان للعودة للبيت لأخذ ملابس أو الذهاب لشراء بعضها فالقصف في كل مكان.
والطعام أخذ بالنفاد شيئا فشيئا فالأيام التي كنا نظنها قليلة استمرت شهور ولازالت.
تساقط الحجارة
كانت الساعة قاربت على العاشرة ليلا فإذا بالقصف قريب جدا الأمر الذي جعل حجارة المنزل الذي تواجدت فيه تسقط على رؤوسنا والمكان شديد الظلام أخذت بنطق الشهادة وتلاوة آية الكرسي شعرت أن وجودي قارب على الانتهاء لكن الله(تعالى) برحمته لطف بنا جميعا وكانت إصابات للبعض تم إسعافها.
كانت بعد ذلك آراء المتواجدين مختلفة بين البقاء أو النزوح للجنوب فكانت صلاة الاستخارة الفاصلة في البقاء في الشمال.
لكن البقاء في ذلك المكان لم يطل بعد ذلك فكانت هنالك الحاجة للنزوح لمكان أخر ما إن انتقلنا ليلتها وأخذنا بالتقاط الأنفاس حتى جاءت الفاجعة باستشهاد عشرة من أقاربي في قصف المنزل على رؤوسهم.
انقطاع الاتصالات
بقيت مع أقاربي لفترة في المكان ذاته لكن تكررت الحاجة للنزوح فالاحتلال يتعمد في استهداف كافة المناطق وانتزاع الأمان منها لكن لابد من الانتقال من باب الأخذ بالأسباب فذهبت معهم لمنطقة الاتصال فيها مقطوع شعرت بألم كبير وأخذت أتسأل في نفسي كيف سأخبر شقيقي وشقيقتي أنني بخير؟!
مرت أيام طويلة بدون أي تواصل وفي إحدى الليالي أخذت أحدث نفسي بالقلق والخوف الذي تسلل إليهما بعد انقطاع الاتصال فنظرت إلى هاتفي النقال فوجدت ظهور إشارة الإرسال لم أصدق الأمر بداية فقلت لعلها مجرد إرسال وهمية فجربت بإرسال رسالة قصيرة إلى شقيقتي ” الحمدلله أنا بخير” وبالفعل وصلت بعدها اختفى الإرسال فرحت في هذه اللحظة كثيرا شعرت بأن الله (عزوجل) بلطفه معي.
كنت أحاول الذهاب إلى أماكن وإن كانت بعيدة لعلي أجد الإرسال واتصل بأخي أو أحد أقاربي خارج غزة فأتذكر في المرة الأولى حينما نجح الاتصال معي شعرت كأنني عطشانة جدا وقد ارتويت بالمكالمة فلم أكن أرغب أن تنتهي.
كان الجو بارد حيث فصل الشتاء، و لم أكن أمتلك في نزوحي ملابس شتوية حاولت البحث عن بائع للملابس بحثت كثيرا لكن دون جدوى إلا أنني وجدت محل لازال موجودا ولديه ملابس لكنها ملابس رجالية فقلت لابأس قد أجد سترة تناسبني فعندما طلبت من البائع واحدة قال لي “كم مقاس الشاب” أخبرته بأنها لي فلم أجد ملابس شتوية وما كان أمامي إلا شراء أي شيء يفي بالغرض.
ما كنا نستريح في مكان النزوح إلا ويبدأ وابل الصواريخ يتراشق بنا وفي كل مرة كانت عناية الله (تعالى) بنا.
أذكر حينما كنت في منطقة قريبة جدا من مستشفى الشفاء كان هنالك نزوح وقصف في الليل وصراخ وقتها شعرت بالخوف ما عساني أفعل ؟!
ما وجدت نفسي إلا وأمسك مصحفي واتلو آياته فكنت بكل اية أشعر أن الوضع يأخذ بالهدوء خاصة مع هطول الأمطار التي بعثت في قلبي الأمان.
انقطاع الطعام
كلما زادت أيام الحرب كلما شحت المواد الغذائية وارتفعت أسعارها فكثير ما كان يؤرق ذلك النفس فكثير ما كنت أبحث عن شراء طعام وغالبا لا أجد وإن وجدت فالأسعار غالية جدا فاكتفي بسماع السعر دون الشراء.
كنت كلما اشتهيت شيء ولم أستطع أكله أسأل الله تعالى أن يعوضنا بثمار الجنة فكثير من الطعام لم أتناوله منذ قرابة العام حتى حينما يتم تداول الحديث عن دخول شاحنات من الخضار فإنني اكتفي برؤيتها لا أكلها لارتفاع ثمنها الغير معقول.
الأموال أصبحت قيمتها الشرائية منخفضة مقارنة بالأسعار المرتفعة فكل الأشياء أصبحت شحيحة وغالية.
أذكر أنني لم أجد طعام يؤكل فما كان مني إلا أن صليت ركعتين أسأل الله بهما أن يرزقني الطعام فما رد سؤالي فرزقني من حيث لا أحتسب.
لا دواء
حينما اشتكيت من وجع في الأذن لم أجد مكان للذهاب إليه فما كان مني إلا أن اتصل بأحد أقاربي في القدس لأطلب منه بأن يذهب لطبيب حتى أستطيع التحدث له ويصف لي العلاج.
والأسعار الأدوية غالية إن وجدت فأصبحت شحيحة لكن ليس باليد حيلة فعند حاجتها لابد من شرائها فأذكر أنه قد دخل قدمي مسمار مصدي فأحدث تسمم فلم أجد برهم مضاد حيوي إلا أنني ببعض المحاولات وجدت حبوب مضاد حيوي بثمن مرتفع، لكن لطف الله (تعالى) كان واضحا بالتداوي بآيات القرآن الكريم.
حتى الماء أعلم أنه قد لا يكون نظيف وبالفعل أصابتني وعكة صحية منه لكن لا بديل أمامنا غيره ذلك لايجعلني أشربه مطمئنة إلا إذا تلوت عليه سورة الفاتحة.
لا كهرباء
منذ أكثر من عام أصبحت لا أعلم ماذا يعني كهرباء؟! وعملية شحن الهاتف النقال والمصابيح الصغيرة تكون من خلال تواجد أماكن للشحن يتوفر فيها ألواح طاقة شمسية.
الغاز لم يكن أحسن حالا فقد غاب مع غياب الكهرباء، الأمر الذي جعلني أحاول التعامل مع إشعال النار من خلال الورق والحطب لكن باءت في الفشل فلا أستطيع التعامل معها الأمر الذي جعلني إذا اشتهيت شرب القهوة أن أحضر فخارة وأضع بها سلك معدني يستخدم لتنظيف الصحون، وأضع عليه قطعة من المناديل وأضع فوقهم المعقم الذي يحتوي على كحول فهذه الطريقة تفي بالغرض للأشياء الصغيرة وإن كانت غالية لارتفاع ثمن المعقم.
قصف وحصار
أكثر من مرة قطعت الكتابة جراء القصف ومحاولة الاطمئنان على بعض الأقارب والصديقات.
واستوقفتني فترة رسالة إحدى صديقاتي التي أخبرتني بأنها محاصرة في منطقة بيت لاهيا شمال قطاع غزة حيث الدبابات والقصف متواصل.
وتتابع ذلك خبر استشهاد شقيق إحدى قريبتي بعد أن استشهدت أخواتها الخمسة.
أصبح وداع الشهداء في غزة محال فلا وقت للوداع فالأماكن غير أمنة مما يجعل الحاجة للدفن في أي مكان قريب تتطلب السرعة حتى وإن اقتضى أن يكون بجوار ركام المنزل.
كثير من أقاربي وصديقاتي لم أعلم بشهادتهم إلا بعد شهور من ارتقائهم.
في غزة أصبحت أشعر أنني أحتاج كلما التقي بإحدى قريباتي وصديقاتي باحتضانهم كلما رأيتهم فلا مجال للسلام العابر، لأنها قد تكون المرة الأخيرة التي أراها في الدنيا.
مهما كتبت فمن الصعب أن اختزل عام؛ بل هو أعوام بالنسبة لنا في بضع كلمات مهما طالت، لكن إيماننا العميق برحمة الله تعالى وفضله علينا تؤنس قلوبنا وتعيد النبض لدينا بأننا أصحاب حق فالمعركة بين الحق والباطل من المحال أن يكون وسط بينهما، نستمد ذلك من سجودنا لله (تعالى)، والتمسك بالدعاء بأن يطفىء الله تعالى هذه الحرب بنور من نوره.