نستطيع القول: إننا نعيش في مرحلة كونيّة فريدة، بسبب ما أحدثته ثورة الاتصالات والبثّ الفضائي من تداخل واختلاط بين البيئات الثقافية المتباينة. كان الناس في الماضي يربّون صغارهم في بيئات مغلقة، ووفق معايير ومفاهيم تربوية محدّدة وخاصة، ولهذا فإن الأطر التربوية السائدة كانت في موضع إجماع، أو ما يشبه الإجماع. ومن ثم فإن الأزمات التربوية كانت تفسّر على نحو دائم على أنها بسبب مشكلات في التنفيذ وقصور في التطبيق ليس أكثر. النماذج والقدوات في المجتمعات المختلفة كانت ترمز باستمرار إلى نجاح الأصول التربوية المشتركة وتغري بالدفاع عنها.
لا يعني هذا كله بالطبع أن الأمور كانت على ما يرام، كما لا يعني أن التطورات التي قلبت تلك الأوضاع رأسًا على عقب كانت من الشر الخالص، لكن ذلك يعني أننا أمام فرص وتحدّيات جديدة. أما الفرص فتتجلّى في كسر العزلة التي كانت سائدة بين الشعوب المختلفة، وكسر حدّة البرمجة المحلية –والتي تتسم غالبًا بالتشوّه والقصور- للعقول والنفوس كما تتجلّى في توفّر قدر هائل من الخبرات المتقدمة والمطلوبة لتحقيق قفزات نوعية في تنمية الأفراد والمجتمعات، إلى جانب إنعاش حاسّة المقارنة.
أما التحدّيات فتتجسد أساسًا في إضعاف المحاور والأسس التي كانت تقوم عليها التربية في المجتمعات الإسلامية، مما أدّى إلى نوع من الانقسام في الوعي، وإلى إرباك عام في الأساليب التربوية الموروثة.
في حال الانفتاح وتعدد المحكّات والنماذج التي تتم الإحالة الشعورية واللاشعورية عليها، تكون المشكلة الجوهرية في فقْد الأرضية المشتركة، مما يدفع في اتجاه التناحر والتفكّك الاجتماعي، يحدث كل هذا في الوقت الذي يتمّ فيه تهميش سلطة الدولة والمدرسة والأسرة والمجتمع لصالح سلطة المال والإعلام. أي إن التربية تواجه تحدّيين في وقت واحد: سحب الكثير من الصلاحية والتأثير من المؤسسات التربوية المهمة، وصيرورة الأسس التربوية موضع جدل ونزاع واعتراض. وهذا شيء خطير للغاية.
في حالة كهذه يكون علينا أن نستنبط من عقيدتنا وثوابتنا محاور أساسية ننسج حولها مئات المفاهيم والرموز التربوية ذات الدلالة الاجتماعية، ونحاول نشرها وتعميمها على أوسع نطاق ممكن. ومع أنني أكره المبالغة في كل شيء، وأعتقد أن من اليسير على التربية أن تنجح فيما أخفقت فيه السياسة والاقتصاد والإعلام والتعليم إلا أنني أظل أميل إلى أن التربية الأسرية تظل قادرة على ممارسة فن الممكن أي إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
استطاع علماؤنا القدامى من خلال نظرهم الثاقب، واستقرائهم لمجمل أحكام الشريعة الغراء؛ أن يستنبطوا مقاصد أساسية سموها (الكليات الخمس)، وهذه الكليات هي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض وحفظ المال. وأوجدوا بعض الترتيبات بين هذه الكليات، حيث يُضحّى بالأنفس من أجل حفظ الدين، ويُضحّى بالمال من أجل سلامة الأنفس والأعراض.
ولم يتحدث الأصوليون عن هذه الكليات بوصفها منطلقات وأسسًا لتربية اجتماعية راشدة ومتماسكة؛ لأن هذا كان خارج اهتمامهم واختصاصهم. لكن نستطيع نحن اليوم أن نقوم بذلك من أجل جعل تربيتنا الاجتماعية أشد تمحورًا حول قطعيّات الشريعة، وأشد استجابة لمقتضيات التديّن العميق، ولعلي أبدي هنا الملاحظتين الآتيتين:
1- إن التربية الاجتماعية على أساس هذه الكليات، توفّر لنا الحدّ الأدنى من وحدة الاتجاه، ووحدة المعايير التربوية، فالمسلم مطالب بالمحافظة على تديّنه والتـزامه من خلال ممارسة الشعائر. ومطالب أيضًا بالدفاع عنه بالوسائل المشروعة والممكنة وبالمجادلة عن مبادئه وأدبيّاته. وهو في الوقت نفسه مطالب بأن يساعد إخوانه المسلمين على الالتـزام من خلال تقديم العون لهم، ومن خلال أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. والمسلم مطالب بالمحافظة على نفسه من خلال توفير أسباب الصحة ودفع الأذى والضّرر عنها. وهو مطالب بالمحافظة على نفوس المسلمين. وعليه أيضًا أن يحافظ على عقول المسلمين وأعراضهم، وأموالهم، كما يحافظ على عقله وعرضه وماله. تصوّر معي أماً تتحدث في تفاصيل تربوية تتعلق بالجانب العقلي لأبنائها، ماذا كانت تقول؟
ستقول لهم: العقل نعمة كبرى من الله –تعالى- وشكر هذه النعمة يكون في المحافظة عليها واستخدامها على أحسن وجه ممكن. الكذب حرام؛ لأنه يؤذي العقل إذ يمدّه الكاذب بمعلومات خاطئة. والمسكرات، والمخدرات تؤذي العقل؛ لأنها تضعف ارتباطاته السببيّة. التقليد يؤذي العقل؛ لأنه يحرمه من التفتّح ومن التحفيز على إبداع آراء ونظريّات جديدة، إنها تقول هذا في مجال التربية الفردية. فإذا أرادت لمس الجانب الاجتماعي قالت: بيع المسكرات وتهريب المخدرات حرام؛ لأن على المؤمن ألاّ يُلحق الضرر بإخوانه المسلمين، وألاّ يساعدهم على الوقوع في المعاصي. وتقول أيضًا: إن الكذب على الناس ينطوي على نوع من الغشّ والخديعة لهم. وعلى المسلم كما يكره أن يُخدع من قبل الآخرين أن يتجنّب خديعتهم وهكذا.
وتصوّر معي باقي الأمهات في البلدة يتحدثن بهذه المفاهيم أمام صغارهن، ماذا يعني هذا؟
إنه يعني أن المربيات صرن يتحدثن لغة واحدة، وصرن يؤكدن مفاهيم واحدة. ويعني أيضًا توليد وحدة فكرية وشعورية عظيمة ورائعة، إن العولمة تنشر معاني الأنانية والخلاص الشخصي. أما التربية القائمة على الكليات الخمس فإنها تؤكد للناشئة أن الخلاص إما أن يكون جماعيًا أو لا يكون، وإنّ من غير الممكن للمسلم أن يعيش آمنًا هانئًا في جزيرة يحيط بها الشقاء من كل مكان.
2- إن الترتيب بين الكليات الخمس – كما أشرت إليه – ينطوي على مغزًى تربوي كبير؛ إنه يشكّل خطًا أساسيًا في الرؤية الإسلامية للكثير من جوانب الحياة. إن فداء الدين بالنفوس والأموال يعني الارتباط المطلق بالهدف السامي والنهائي لوجودنا على هذه الأرض، وهو الفوز برضوان الله –تعالى- وفداء النفوس بالأموال يعني التعزيز لمركز الإنسان في الكون، ويعني الرد على الهجمة المادية الحديثة التي تجعل من المال المحور الأساس للحياة، وتجعل من الإنسان أداة لتحقيق المزيد من الثراء لأصحاب الحظوة والنفوذ.
نحن حتى نتمكن من جعل الكليات الخمس محاور للتربية الاجتماعية، نحتاج إلى صبّها في قوالب تربوية حديثة وإغنائها بالتفاصيل والمعاني الجزئية. وهذا يحتاج إلى بحث معمّق وجهد تربوي متميز. لكنّ شيئًا من هذا لن يحدث إذا ما ظلّت الدونيّة تسيطر على نظرتنا لكل هو اجتماعي وعام.
إننا إذا أدركنا أن التقدّم الحقيقي هو في جوهره تقدم روحي واجتماعي أكثر من أن يكون تقدمًا عمرانيًا، فإننا سنبذل الكثير في سبيل الارتقاء بالمفاهيم التربويّة، وسيتغير بذلك الكثير من الأشياء.
المصدر: “إسلام أون لاين”.