لم يكترث المواطن الفلسطيني ياسر اليازوري (41 عاماً) لـ”اللكمة” التي حوّلت جفن عينه إلى اللون الأزرق، والتي تلقّاها على حين غفلة بينما كان يُلطّف الجوّ المشحون بين أطفاله الثلاثة المصابين باضطرابات التوحد.
يبدو ذلك المشهد “اعتيادياً” لدى عائلة اليازوري، حيث لم تكن هذه المشاجرة “العنيفة” بين الأشقّاء الثلاثة “فادي ومحمود ويوسف”، الأولى من نوعها.
وما يزيد الأمر تعقيداً وصعوبة، هو فقد الأطفال الثلاثة لـ”حاسة النطق” بشكل كامل؛ فيما تعتبر هذه واحدة من أعراض “التوحّد” لديهم، كما قال اليازوري، لمراسلة “الأناضول”.
وبخلاف ذلك تماماً، يحدث أن يلتزم الأشقّاء الثلاثة “الهدوء”، ويدخلون في عالم “خيالي” خاص بهم، ولا يستجيبون لنداء والديهم “المُتكرر”.
وبتلك الأحوال المتناقضة للأشقّاء الثلاثة، بالكاد يستطيع الوالد السيطرة عليهم، خاصة وأنهم يعجزون عن التعبير عن احتياجاتهم بسبب “البكم”.
وما يفاقم وضعهم سوءاً، هو امتناعهم عن ارتياد مراكز متخصصة بعلاج “اضطرابات التوحّد” منذ أبريل 2017؛ بسبب خصم الحكومة الفلسطينية (برام الله)، أكثر من 30% من رواتب موظفيها بغزة.
واليازوري، واحد من آلاف الموظفين الحكوميين، التابعين للسلطة الفلسطينية، والذين جلسوا في منازلهم إبان أحداث الانقسام منتصف 2007، بطلب رسمي، وتعرضت رواتبهم للخصم.
ويُهدد امتناع ذهاب هؤلاء الأطفال للمراكز العلاجية المتخصصة “مستقبلهم”، خاصة في ظل انعدام توفر الخطط العلاجية السلوكية التي تطوّر من قدرتهم على الكلام والتواصل مع الآخرين (تزيد من عمرهم العقلي والإدراكي).
ويقضي الأشقّاء الثلاثة وقتهم كاملاً داخل المنزل، إلا ساعة يومياً، يصطحبهم خلالها والدهم في نزهة بالخارج، كي يذكرهم “كيف تبدو الحياة هناك”.
الطفل فادي، ذو الـ9 أعوام، يبلغ عمره الإدراكي والعقلي، بحسب آخر تقييم أجراه في مركز متخصص بعلاج اضطرابات التوحّد، ما بين (3-4) سنوات فقط.
بدأت حالة “التوّحد” عند فادي منذ أن كان عمره عامين اثنين، وبعد إصابته بنوبتي “تشنج” بفعل زيادة الكهرباء في “المخ”.
وبعد أقل من عام، لاحظ اليازوري وزوجته “قلّة تواصل فادي مع المحيطين به، وعدم تأثره بالمؤثرات الخارجية، وانعدام قدرته على الكلام”.
وبدا النمو الجسماني لدى الطفل يأخذ المنحى الطبيعي، بينما تأخر نمو مهاراته الحسّية والإدراكية والحركية، كانت مبعث قلق دائم بالنسبة لوالديه.
فانتقل “اليازوري” بطفله فادي من مركز لآخر، حتّى تم تشخيص حالته بـ”اضطرابات التوحد”، الأمر الذي اضطره لتسجيل الطفل في تلك المراكز لتحسين مهاراته في النطق والتواصل.
لكن، وبعد فترة زمنية قليلة، لوحظ على شقيقه “محمود” البالغ من العمر 8 أعوام، ذات الأعراض التي يعاني منها “فادي”.
ويبلغ العمر العقلي والإدراكي لمحمود حوالي عامين فقط، وفق آخر تقييم آجراه في أحد المراكز المختصة بعلاج اضطرابات التوحّد.
والحالة لم تتوقف عن الشقيقين، حيث أصُيب يُوسف البالغ من العمر 6 أعوام بنفس أعراض “التوحّد”، بينما يصل معدل عمره العقلي إلى عام وثمانية شهور فقط.
ويعتقد اليازوري أن “الشقيقين اكتسبا مرض التوحّد وأعراضه من شقيقيهم الأكبر فادي؛ وإلا فلا يوجد مسوغّات لإصابة ثلاثتهم بذات المرض؛ غير الوراثي”.
ويشعر اليازوري بالحسرة، وهو ينتظر عاماً بعد عام نمو المهارات الحسية والإدراكية لأطفاله الثلاثة، تماماً كما تنمو أجسادهم.
ويتهدد الفقر الذي تعيشه العائلة، حيث يتلقّى ربّ الأسرة راتباً شهرياً تبلغ قيمته 1700 شيكل (حوالي 480 دولاراً)، مستقبل الأطفال الثلاثة.
ويدفع اليازوري من ذلك الراتب الشهري، مبلغاً يقدّر بـ171 دولاراً، أجرة للمنزل الذي يسكنه وعائلته المكوّنة من 7 أفراد، وسط قطاع غزة.
ويحتاج الأب بشكل شهري إلى مبلغ يساوي قيمة راتبه الحالي كي يتمكّن من تعليم أطفاله، وإدماجهم في المجتمع.
بينما يتخوف اليوم، من إحالته لـ”التقاعد المُبكّر”، حيث تعدّ الحكومة الفلسطينية كشوفات (مُستجدة) تُحيل خلالها، العشرات من موظفيها في غزة إلى التقاعد.
وناشد اليازوري، المؤسسات التركية العاملة في قطاع غزة بـ”تبنّي علاج أطفاله الثلاثة، وإنقاذهم من مستقبل أسود، في حال استمر إصابتهم باضطرابات التوحّد”.
وأما شقيقتهم “لمى”، والبالغة من العمر (10 سنوات)، قالت وهي تحبس دموعها، للأناضول، إن “المجتمع الفلسطيني لا يحترم خصوصية هذا المرض، خاصة في ظل غياب تلك الثقافة داخل الأسرة”.
وتتعرض “لمى”، إلى مواقف تصفها بـ”المؤلمة”، عندما تأخذ أشقّاءها إلى الخارج، في نزهة قصيرة.
وتضيف: “يصبح أشقائي الثلاثة عرضة للاستهزاء من قبل الأطفال الآخرين في الحيّ، خاصة وأنهم غير قادرين على الكلام”.
وتقول إنها غالباً ما تواجه تلك الانتقادات بـ”حبس دموعها”؛ نظراً لعجزها عن الدفاع عن أشقائها بسبب صغر عمرها.
ولا تبدو حالة عائلة “اليازوري”، الوحيدة من نوعها في القطاع، حيث يتهدد الفقر مستقبل عشرات الأطفال المصابين باضطرابات التوحّد.
وعلى قوائم التسجيل، في مركز “الإرادة التخصصي لاضطرابات التوحّد”، ينتظر حوالي 200 طفل وطفلة (مصابون بالتوحد) تسديد رسومهم الشهرية والبالغة 600 شيكل (ما يعادل 170 دولار)، للالتحاق بالمركز لغرض العلاج، كما يقول مدير المركز، إسلام بركات، لـ”الأناضول”.
لكن ارتفاع معدلات الفقر بغزة تمنع عائلات هؤلاء الأطفال من تسجيلهم في المراكز المتخصصة؛ الأمر الذي يهدد مستقبلهم.
ويصف بركات الحالة التي تعيشها عائلة “اليازري” بـ”القصة المأساوية”، لافتاً إلى ضرورة التحاق الأشقاء الثلاثة بمراكز لـ”تلقّي برامج التعليم والتدريب والتربية والتأهيل”.
ويشير بركات، إلى أن تلك العائلة لم تتمكن من تسجيل أطفالها في المراكز، بسبب ضعف الاحتياج المادي الذي تعاني منه؛ مشيراً أن المركز يتعرض لعشرات الحالات المشابهة بشكل دوري.
ويقول: إن المركز “غير قادر على تغطية النفقات المادية للأطفال الذين يتم التحاقهم بالبرامج التعليمية والتأهيلية”، نظراً لارتفاع قيمة النفقات التشغيلية للمركز.
ويلفت بركات، إلى أن استمرار الحصار الإسرائيلي، المفروض على قطاع غزة للعام الـ11 على التوالي، يفاقم من سوء الأوضاع المعيشية والإنسانية للأسر الفقيرة، خاصة التي تحتضن أفرادا يعانون من أمراض واضطرابات عصبية مختلفة.
وتعاني غزة، حيث يعيش قرابة مليوني نسمة، من أوضاع معيشية متردية للغاية، جراء الحصار الإسرائيلي المستمر منذ أكثر من 11 عاماً، إضافة إلى تعثر عملية المصالحة بين حركتي “فتح”، و”حماس”.
وبحسب آخر الإحصائيات، فإن نسبة الفقر في قطاع غزة بلغت حوالي 80%، فيما ارتفعت نسبة البطالة في صفوف المواطنين إلى 50%.