هل يمهد اتفاق منبج لعودة العلاقات الإستراتيجية بين تركيا وأمريكا؟
رغم الاختلاف الشديد في الأجندات والأهداف والأساليب، بين أنقرة وواشنطن في سورية، إلا أن اللقاءات والمباحثات بين الطرفين لم تنقطع طوال السنوات السبع الماضية.
إصرار الطرف التركي على العمل المشترك في سورية، من خلال تقديم المشاريع والمبادرات وخطط الحركة، قوبل من الجانب الأمريكي بالتسويف والوعود الكلامية والنكوص المتكرر عن تلك الوعود، ما دفع الطرف التركي إلى طرق الباب الروسي، بعد أن وصل التوتر بين أنقرة وموسكو إلى شفير الحرب، على خلفية إسقاط الطائرة الروسية.
وبعد الاستدارة التركية نحو موسكو، دخلت أنقرة في مسار أستانا كدولة ضامنة لطرف المعارضة، وهو دخول أعطى أستانا ومسارها زخما كبيراً، رغم غموض واشنطن، وحذر الأمم المتحدة وتردد مبعوث أمينها العام للشؤون السورية سيتفان ديمستورا.
التنسيق التركي الروسي النشط، الذي قطع أشواطاً كبيرة على الأرض السورية، شجع بوتين على الذهاب لجهة عقد مؤتمر سوتشي “للحوار السوري السوري!” كخطوة متقدمة، رغم المقاطعة الأمريكية لهذا المؤتمر.
ولطالما ردد رئيس وزراء تركيا السابق، أحمد داوود أوغلو، عبارة: “خسارة تركيا خسارة كبيرة لا تعوض”.. وأدرك الأمريكان مؤخراً أن خسارة تركيا، تعني فقدان البوصلة في معادلة الشرق الأوسط المعقدة، إذ السير مع منظمات إرهابية لا يمكن أن يوصل إلى الهدف المنشود، حتى لو كان الطريق أقصر وأسرع في الوصول.
أدرك الأمريكيون أن الخمسة آلاف شاحنة المملوءة بالسلاح والعتاد التي قدموها لميليشيا “ب ي د / بي كا كا” الإرهابية لا يمكن أن تحول تلك المنظمة الانفصالية الإرهابية إلى منظومة تقود دولة، إذ السلاح وحده لا يبني دولة.. نعم قد يساعد السلاح النوعي على كسب معركة أو معركتين، لكنه في المحصلة لا يمكن أن يؤسس لاستقرار، ولا يكفي لإدارة الدولة والمجتمع.
3 ملفات خلافية أساسية
الملف الأول: تأسيس الاستقرار في مدينة منبج
زيارة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى واشنطن اكتسبت أهمية خاصة، حيث اتفق الطرفان التركي والأمريكي، على خارطة طريق بشأن إدارة مدينة منبج السورية.
وزير الخارجية التركي، بيّن وجود ثلاث مراحل لتطبيق خارطة الطريق التي تم الاتفاق عليها مع الطرف الأمريكي بخصوص منبج، حيث تتضمن المرحلة الأولى انسحاب “ب ي د/بي كا كا” من منبج، ثم وضع خطة لتطهير المؤسسات المحلية من عناصر التنظيم، ولاحقا تتعاون الولايات المتحدة وتركيا في تشكيل مؤسسات محلية وأمنية في المدينة.
متحدث الحكومة التركية بكر بوزداغ، أشار إلى أن أنقرة لم تتفاهم بعد مع الولايات المتحدة حول جميع القضايا المتعلقة بشمالي سورية، وبيّن أن واشنطن لا تعتبر ميليشيات “PYD” و”YBG” ذراعا منظمة “PKK” الإرهابية في سورية منظمات إرهابية.
وشدد أن “PKK” كانت تعمل على قدم وساق في تنفيذ حزامها الإرهابي على طول 911 كم، على الحدود السورية التركية، وسعت إلى تأسيس دويلة إرهابية مزعومة في هذه المنطقة.
المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية هيذر ناورت، أكدت من جهتها أن التسوية حول مدينة منبج ستكون مقبولة لجميع الأطراف.
وقالت: إن “الولايات المتحدة والحكومة التركية من خلال المحادثات التي دارت بين وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، ونظيره التركي، توصلا إلى تسوية من أجل إحلال الاستقرار في منبج”.
وذكرت المسؤولة الأمريكية أن هذه التسوية تنص على “انسحاب عناصر تنظيم ي ب ك/ب ي د، من منبج نحو مناطق شرق نهر الفرات، كجزء من هذا الاتفاق”.
واعتبرت أن “هذا هو بداية لسلسلة من المحادثات التي ستستمر سواء بين وزيري الخارجية أو من خلال فرق العمل”.
وتابعت: “نريد أن يكون هناك استقرار آمن في منبج وهذه مسألة ملتزمون بها معا، وسنستمر في العمل بجد مع حلفائنا في تركيا”.
وأردفت: “نريد أن يتم تحقيق الاستقرار في تلك المنطقة”.
طبعاً لا بد من التذكير بأن واشنطن من خلال الاتفاق الأخير، بدأت تفي بوعودها التي قطعتها على نفسها عام 2016 عندما تعهدت لتركيا بإخراج عناصر تنظيم “ي ب ك/ب ي د” من منبج نحو مناطق شرق نهر الفرات، بمجرد الانتهاء من تحرير منبج من “داعش”.
ولا بد من التأكيد أيضا على ضرورة التزام الطرف الأمريكي بتعهده عام 2016 باسترجاع الأسلحة من مقاتلي تنظيم “ي ب ك/ب ي د”، ضمن خريطة الطريق الجديدة.
أيضا يجب الإشارة إلى أن أنقرة ستبقي قنواتها مفتوحة مع موسكو، رغم الاتفاق مع واشنطن في سورية، لأن الأمريكان عقدوا عدة اتفاقات مع تركيا ولم يفوا بها.
الملف الثاني: صفقة المقاتلات من طراز “إف-35”
ينص الاتفاق بين أنقرة وواشنطن على تسليم المقاتلات من طراز “إف-35” الأمريكية خلال الشهر الجاري، وقد تمت جميع إجراءات الفحوصات الأولية التجريبية على الطائرات التي رسم على أجنحتها العلم التركي.
لكن بعض أعضاء الكونغرس قدم مشروع قرار يمنع الحكومة بموجبه من تسليم الطائرات لتركيا، بذريعة شراء أنقرة منظومة الصواريخ الروسية “S400″، بالرغم من انتهاء الصفقة، وقيام تركيا بتسديد الدفعات المترتبة على عملية الشراء.
المقاتلات من طراز “إف-35” ليست صناعة أمريكية خالصة مائة بالمائة، إذ هناك بعض القطع الحساسة تصنع في تركيا أيضاً، وبالتالي فإن ما يقوم به بعض أعضاء الكونغرس ليس أكثر من عملية ابتزاز لتركيا.
جاويش أوغلو أكد أن بلاده ترفض لغة التهديدات من الكونغرس الأمريكي حول هذا الموضوع، وشدد على أن تسليم مقاتلات “إف-35” سيجري في 21 يونيو الجاري، كما كان مخططًا له من قبل، موضحًا أنه ليس هناك أي تغيير في هذا الصدد.
الملف الثالث: ملف تسليم زعيم الكيان الموازي “فتح الله غولن”
قضية تسليم فتح الله غولن زعيم الكيان الموازي، الذي تتهمه أنقرة بالتخطيط للانقلاب الفاشل بتاريخ 15 يوليو 2016، شكلت إحدى نقاط الخلاف بين الطرفين.
تقول أنقرة: إنها قدمت للمسؤولين الأمريكيين مجموعة من الأدلة القطعية الثابتة التي تدل على ضلوع غولن وتنظيمه في التخطيط للانقلاب، وطلبت تسليمه بموجب اتفاقية تسليم المتهمين المبرمة بين الطرفين.
وتتهم أنقرة واشنطن بالتلكؤ وعدم مراعاتها للاتفاق بين البلدين، في الوقت الذي قامت به أنقرة بتسليم جميع المطلوبين لواشنطن.
في زيارته الأخيرة كرر جاويش أوغلو مطالبة تركيا باستعادة غولن، من أجل محاكمته، لكن نظيره الأمريكي مايك بومبيو أبلغه بأن مكتب التحقيقات الفيدرالية (FBI)، يجري تحقيقات جدية حول منظمة غولن في الولايات المتحدة.
يبدو أن ترمب أدرك أن العلاقة مع أنقرة وصلت إلى طريق مسدود، إما الاستجابة للمطالب التركية، أو المواجهة مع تركيا.. ترمب رجح الأولى، فأعطى أوامره بالتسوية والاستجابة لتلك المطالب.
الوزير جاويش أوغلو قال في واشنطن خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع بومبيو: “يتوجب على أمريكا أن تثق بتركيا، لأننا حتى اليوم وفينا بجميع وعودنا وتعهداتنا والتزاماتنا، في المقابل فإن تركيا تريد أن ترى خطوات عملية من أمريكا تجاه تعهداتها”.
عودة العلاقات التركية الأمريكية إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية مرهون بوفاء واشنطن بالوعود التي قطعتها على نفسها أمام تركيا.
بالطبع لم تقتصر المباحثات على الملفات سالفة الذكر، فقد ذكرت مصادر مطلعة أن الحوار بين الطرفين تطرق إلى نقاط كثيرة، شملت قضايا سياسية وعسكرية واقتصادية، وتفاصيل ميدانية في سورية.
المفاوضات التركية الأمريكية، وإن طغت عليها مسألة منبج السورية، إلا أنها تؤسس لعلاقات جديدة بين الطرفين، تتيح لتركيا ممارسة دور محوري في المنطقة.