في دراسته الشاملة عن فقه الدولة في الإسلام التي نشرنا الجزء الأول منها في العدد الماضي، يشير د. يوسف القرضاوي إلى عدد من القضايا المهمة والمحورية في هذا العدد، فقد أوضح أن الجدال قد اشتد في هذه الأيام حول قضية تغيير المنكر بالقوة، ومن له الحق في التغيير؟ ومتى يجوز ذلك؟
فالبعض يقول: إن هذا الحق لولي الأمر فقط؛ أي من وظائف الدولة لا من وظائف الأفراد، وآخرون يجعلون ذلك من حق كل مسلم، بل من واجبه؛ استناداً للحديث: “من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”، وهذا ما حفَّز بعض الشباب المتحمس لتغيير ما لم يرونه منكراً بأيديهم دون مبالاة بالعواقب، ويؤكد المؤلف أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم واضح الدلالة على أن تغيير المنكر من حق كل من رآه من المسلمين، بل من واجبه، وكل ما هو مطلوب من الفرد المسلم عند التغيير هو أن يراعي الشروط التي لا بد منها، وهي:
أولها: أن يكون المنكر محرماً مجمعاً عليه؛ أي أن يكون منكراً حقاً، فلا يدخل في المنكر المكروهات، أو ترك السنن والمستحبات.
والشرط الثاني: ظهور المنكر؛ أي أن يكون المنكر ظاهراً مرئياً، أما ما استخفى به صاحبه عن أعين الناس، وأغلق عليه بابه، فلا يجوز اقتحام داره عليه لضبطه متلبساً بالمنكر.
والشرط الثالث: هو القدرة الفاعلية على التغيير؛ أي أن يكون مريد التغيير قادراً بالفعل بنفسه أو بمن معه من أعوان على التغيير بالقوة؛ بمعنى أن تكون لديه قوة مادية أو معنوية تمكّنه من إزالة المنكر بسهولة.
والشرط الرابع: هو ألا يترتب على إزالة المنكر بالقوة منكر أكبر منه، كأن يكون سبباً لفتنة تُسفك فيها دماء الأبرياء، وتُنتهك الحرمات، وتُنتهب الأموال، وتكون العاقبة أن يزداد المنكر تمكناً، ويزداد المتكبرون تجبراً وفساداً في الأرض، ولهذا قرر العلماء مشروعية السكوت عن المنكر مخافة ما هو أنكر منه وأعظم، ارتكاباً لأخف الضررين واحتمالاً لأهون الشرين.
ويؤكد المؤلف في ختام هذا الفصل أن تغيير المنكرات الجزئية ليست علاجاً للتخريب الذي أصاب مجتمعاتنا، إن الأمر أكبر من ذلك وأعظم، لا بد من تغيير أشمل وأوسع وأعمق، تغيير يشمل الأفكار والمفاهيم، ويشمل القيم والقوانين والموازين، ويشمل الأخلاق والأعمال، ويشمل الآداب والتقاليد والأنظمة والتشريعات.
موقف الدولة المسلمة من الديمقراطية والتعددية والمرأة وغير المسلمين
يرى البعض أن الديمقراطية تنافي الإسلام تماماً، ويقول البعض الآخر: إنها كفر، ويذكر المؤلف أن الغريب أن بعض الناس يحكم على الديمقراطية بذلك وهو لم يعرفها معرفة جيدة تنفذ إلى جوهرها بغض النظر عن الصورة والعنوان، إن جوهر الديمقراطية أن يختار الناس من يحكمهم، وألا يفرض عليهم حاكم يكرهونه، أو نظام يكرهونه، وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ وحق عزله وتغييره إذا انحرف، وألا يساق الناس رغماً عنهم إلى اتجاهات أو مناهج اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية لا يرضون عنها، هذا هو جوهر الديمقراطية التي وجدت البشرية لها صيغاً وأساليب عملية، مثل الانتخاب والاستفتاء العام، وترجيح حكم الأكثرية، وتعدد الأحزاب السياسية، وحق الأقلية في المعارضة، وحرية الصحافة، واستقلال القضاء.. إلخ، فهل الديمقراطية في جوهرها تنافي الإسلام؟
وهنا يؤكد المؤلف أن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنها من صميم الإسلام، حيث ينكر الإسلام أن يؤم الناس في الصلاة من يكرهونه ولا يرضون عنه، هذا في الصلاة، فكيف إذاً في الأمور السياسية؟ ولقد شنَّ القرآن حملة في غاية القوة على الحكام المتألهين في الأرض الذين يتخذون عباد الله عباداً لهم، مثل: النمرود، وفرعون.
ولقد كشف القرآن تحالفاً ثلاثياً خبيثاً؛ الأول: الحاكم المتألّه المتجبر في بلاد الله، والثاني: السياسي الوصولي الذي يسـخِّر ذكاءه وخبرته في خدمة الطاغية وتثبيت حكمه، ويمثله هامان، والثالث: الرأسمالي أو الإقطاعي المستفيد من حكم الطاغية، فهو يؤيده ببذل بعض ماله ليكسب أموالاً أكثر من عرق الشعب ودمه، ويمثله قارون، وقد ربط القرآن بين الطغيان وانتشار الفساد الذي هو سبب هلاك الأمم.
ولم يقصر القرآن حملته على الطغاة المتألّهين وحدهم، بل أشرك معهم أقوامهم وشعوبهم الذين اتبعوا أمرهم، وساروا في ركوبهم، وحمّلهم المسؤولية معهم، فيقول تعالى عن قوم فرعون: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) (الزخرف: 54).
ولقد قرر الإسلام الشورى قاعدة من قواعد الحياة الإسلامية، وأوجب على الحاكم أن يستشير، وأوجب على الأمة أن تنصح، حتى جعل النصيحة هي الدين كله، كما جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة لازمة، بل جعل أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطان جائر، وعلى هذا؛ فإن الإسلام قد سبق الديمقراطية بتقرير القواعد التي يقوم عليها جوهرها، ولكنه ترك التفصيلات لاجتهاد المسلمين وفق أصول دينهم ومصالح دنياهم، وتطور حياتهم بحسب الزمان والمكان وتجدد أحوال الإنسان.
ومن هنا صار من الممكن أن نأخذ من الديمقراطية أساليبها وآلياتها وضماناتها التي تلائمنا، ولنا حق التحوير والتعديل فيها، ولا نأخذ فلسفتها التي يمكن أن تحلِّل الحرام أو تحرِّم الحلال، أو تسقط الفرائض.
تعدد الأحزاب في ظل الدولة الإسلامية
ويرى المؤلف أنه لا يوجد مانع شرعي من وجود أكثر من حزب سياسي داخل الدولة الإسلامية، إذ المنع الشرعي يحتاج إلى نص، ولا يوجد نص، بل إن هذا التعدد قد يكون ضرورة في هذا العصر؛ لأنه يمثل صمام أمان من الاستبداد أو فقدان أي قوة تستطيع أن تقول لها: لا.. وكل ما يُشترط لتكتسب هذه الأحزاب شرعية أمران أساسيان؛ الأول: أن تعترف بالإسلام عقيدة وشريعة، ولا تعاديه أو تتنكر له، ثانياً: ألا تعمل لحساب جهة معادية للإسلام ولأمته، فلا يجوز أن ينشأ حزب يدعو إلى الإلحاد أو الإباحية أو اللادينية.
ويؤكد المؤلف أنه حين يجيز التعدد الحزبي داخل الدولة الإسلامية، فليس معناه أن تتعدد الأحزاب بتعدد أشخاص معينين يختلفون على أغراض ذاتية، ومثل ذلك التعدد على أساس عنصري أو إقليمي أو طبقي، فهذا يبرأ منه الإسلام، إنما التعدد المشروع هو تعدد الأفكار والمناهج والسياسات، ليطرحها كل فريق، مؤيدة بالحجج والأسانيد، فيناصرها من يؤمن بها ولا يرى الإصلاح في خلافها.
وتعدد الأحزاب في مجال السياسة أشبه شيء بتعدد المذاهب في مجال الفقه، فالمذهب الفقهي هو مدرسة فكرية لها أصولها في فهم الشريعة والاستنباط من أدلتها التفصيلية، وأتباع المذهب هم في الأصل تلاميذ في هذه المدرسة يؤمنون بأفكارها، ويؤمنون بأنها أدنى إلى الصواب من غيرها.
ويؤكد أن التعدد لا يعني بالضرورة التفرق، كما أن بعض الاختلاف ليس ممقوتاً، مثل الاختلاف في الرأي نتيجة الاختلاف في الاجتهاد، ولهذا اختلف الصحابة في مسائل فرعية كثيرة، ولم يضرهم ذلك شيئاً، وقد اعتبر هذا النوع من الاختلاف من باب الرحمة التي وُسّع بها على الأمة.
ويذهب المؤلف إلى أنه لا مانع من أن تتعدد الجماعات العاملة للإسلام، على أن يكون هذا التعدد تعدد تنوع وتخصص، لا تعدد تعارض وتناقض، وأن يقف الجميع صفاً واحداً في كل القضايا المصيرية التي تتعلق بالوجود الإسلامي وبالعقيدة الإسلامية وبالأمة الإسلامية.
ترشيح المرأة للمجالس النيابية
المرأة مكلَّفة مثل الرجل، ومطالَبة بعبادة الله تعالى وإقامة دينه، وأداء فرضه، والوقوف عند حدوده، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأصل العام أن المرأة كالرجل في التكليف، إلا ما استثني، والقرآن الكريم يحمّل الجنسين -الرجال والنساء جميعاً– مسؤولية تقويم المجتمع وإصلاحه، وهو ما يعبر عنه بـ “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.
وقد قامت المرأة بدورها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إن أول صوت ارتفع في تصديق النبي عليه الصلاة والسلام وتأييده كان صوت امرأة؛ وهي السيدة خديجة رضي الله عنها، وأول شهيد في الإسلام كان امرأة؛ وهي السيدة سمية أم عمار رضي الله عنها، ومنهن من قاتل مع رسول الله في “أُحد”، و”حنين”، وغيرهما من الغزوات.
ويذكر المؤلف أن البعض يرى أن دخول المرأة البرلمان (مجلس الشعب، الشورى) حرام، وإثم مبين، ولكن التحريم لا يثبت إلا بدليل لا شبهة فيه، فالأصل في الأشياء الإباحة، إلا ما قام الدليل على حرمته، والدليل الذي يسوقه هؤلاء هو آية (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) (الأحزاب: 33)، فلا يجوز للمرأة أن تدع بيتها إلا لضرورة أو حاجة.
ويرى المؤلف أن هذا الدليل غير ناهض؛ لأن:
أولاً: الآية تخاطب نساء النبي، ونساء النبي لهن من الحرمة وعليهن من التغليظ ما ليس على غيرهن.
ثانياً: أم المؤمنين عائشة مع هذه الآية خرجت من بيتها، وشهدت معركة “الجمل” استجابة لما تراه واجباً دينياً عليها، وهو القصاص من قتلة عثمان، وإن أخطأت التقدير فيما صنعت.
وثالثاً: المرأة قد خرجت من بيتها بالفعل، وذهبت إلى المدرسة والجامعة، وعملت في مجالات الحياة المختلفة دون نكير من أحد؛ مما يعتبره الكثيرون إجماعاً على مشروعية عمل المرأة خارج البيت بشروطه.
ورابعاً: الحاجة تقتضي من المسلمات أن يدخلن معركة الانتخاب في مواجهة المتحللات والعلمانيات اللائي يزعمن قيادة العمل النسائي، والحاجة الاجتماعية والسياسية قد تكون أهم وأكبر من الحاجة الفردية التي تجيز للمرأة الخروج للحياة العامة.
خامساً: حبس المرأة في البيت لم يعرف إلا عقوبة لمن ارتكب الفاحشة: (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) (النساء: 15).
ويضيف المؤلف أن هناك من يستدل على منع المرأة الترشيح للمجالس النيابية، بأن هذا ولاية على الرجال، وهي ممنوعة منها، ويرد بأن عدد النساء اللاتي يرشحن للمجلس النيابي محدود، وستظل الأكثرية للرجال، وهذه الأكثرية هي التي تملك القرار، وهي التي تحل وتعقد، فلا مجال للقول بأن ترشيح المرأة للمجلس سيجعل الولاية للنساء على الرجال، كما أن الآية الكريمة التي ذكرت قوامة الرجل على المرأة إنما قررت ذلك في الحياة الزوجية، فالرجل هو رب الأسرة، وهو المسؤول عنها، والممنوع هو الولاية العامة للمرأة على الرجال، أي رئاسة الدولة، أما بعض الأمر فلا مانع أن يكون للمرأة ولاية فيه، مثل ولاية الفتوى أو الاجتهاد أو التعليم أو الإدارة ونحوها، وهذا مما لها ولاية فيه بالإجماع، وقد مارسته على توالي العصور.
إن النصيحة في الدين واجبة لأئمة المسلمين وعامتهم، وهذه النصيحة ليست مقصورة على الرجال وحدهم، وما دام من حق المرأة أن تنصح وتشير بما ترى من الصواب، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فلا يوجد دليل شرعي يمنع من عضويتها في مجلس يقوم بهذه المهمة.
ويقول المؤلف: إنه حين يقول بجواز دخول المرأة مجلس الشعب لا يعني بذلك أن تختلط بالرجال الأجانب عنها بلا حدود ولا قيود، أو أن يكون ذلك على حساب زوجها وبيتها وأولادها، أو يخرجها ذلك من أدب الاحتشام في اللباس والمشي والحركة والكلام، بل كل ذلك يجب أن يراعى بلا ريب ولا نزاع من أحد، وهذا مطلوب من المرأة في عملها خارج البت أياً كان هذا العمل.
المشاركة في حكم غير إسلامي
يؤكد المؤلف أن الأصل في هذه القضية ألا يشارك المسلم إلا في حكم يستطيع فيه أن ينفذ شرع الله فيما يوكل إليه من مهام الولاية، أو الوزارة، وألا يخالف أمر الله تعالى، فإذا كان الحكم غير إسلامي؛ بمعنى أنه لا يلتم بتطبيق شريعة الإسلام وأحكامه في شؤون الحياة المختلفة، وإنما يتخذ له مصادر أخرى غير الإسلام يستوردها من الغرب والشرق؛ فهذا مرفوض في نظر الإسلام الذي يوجب على المسلمين الاحتكام إلى ما أنزل الله عز وجل.
كما أن كل عمل يقدم خدمة أو عوناً للطغاة يعتبر محرماً في نظر الشرع، الذي أمر بالتعاون على البر والتقوى، ونهى عن التعاون على الإثم والعدوان.
إلا أن الفقهاء يجيزون للفرد المسلم وللمجتمع المسلم النزول للضرورة من المثل الأعلى إلى الواقع الأدنى حتى لا تتعطل مصالح الخلق، وتضيع حقوقهم، فإذا نظرنا إلى واقع المسلمين وما هم فيه من تمزق، وإلى واقع أعدائهم وما يملكون من قوة، نرى أن هذا الواقع يفرض علينا أن نقبل في حال الضعف ما يجب أن نرفضه في حال القوة، ومن لم يستطع أو يصل إلى الحكم –كما هي الحال في الكثير من البلاد الإسلامية اليوم– فلا مانع أن ينزل على حكم الواقع، ويرضى بالمشاركة مع غيره إن كان من وراء ذلك خير للأمة.
ترشيح غير المسلمين للمجالس النيابية
يرى الفقهاء أن الأقلية من غير المسلمين لها ما للمسلمين وعليها ما عليهم، ومن برهم والإقساط إليهم أن يمثّلوا في هذه المجالس، حتى يعبروا عن مطالب جماعتهم، وألا يشعروا بالغربة عن بني وطنهم.
ولقد أجاز المسلمون خلال العصور المختلفة أن يتولى غير المسلمين من أهل الذمة وزارة التنفيذ، وعرف منهم كثير من الوزراء في الدولة العباسية، ولم ينكر عليهم أحد من العلماء، إلا إذا طغوا وتجبروا على المسلمين.
ولقد نهت الآيات الكريمة عن موادّة مَن آذى المسلمين وعاداتهم وحاربهم –أي من حادّ الله ورسوله– فقط، وليس المخالف في الدين.
______________________
العدد (1295)، 10 من ذي الحجة 1418هـ / 7 أبريل 1998م، ص50-51.