الهجرة النبوية حدث غيَّر مجرى التاريخ، وكان له أثره ليس على الإسلام فقط، بل على العالم بأسره.
وإذ نحن على أعتاب عام هجري جديد، فإنه علينا أن نذكر بأن للهجرة النبوية دروساً كثيرة لها دلالتها الإيمانية والدعوية والمهاراتية والقيادية، وتمتد ظلالها الوارفة إلى بناء الدولة وصياغة القيم وتصحيح التصورات وفهم المتغيرات وحسن إدارة الأزمات وترتيب المهمات.
هذا الحدث الجليل الذي نستحضره ونحن نستفتح عاماً هجرياً جديداً لا يكفي فيه أن نستحضره تأريخاً، بل علينا أن نغوص في زواياه التاريخية ونبحث في دلالاتها العميقة لنسلط الضوء على آثارها في الفرد والمجتمع المسلم، بل على الإنسانية جمعاء.
وها نحن نسلط الضوء على زاوية مهمة من دروس الهجرة النبوية، ألا وهي: وحدة الأمة، من خلال هذين المحورين:
الأول: وحدة الأمة في كتاب الله تعالى:
شكل الحديث عن وحدة الأمة والدعوة لها وبيان مرتكزاتها وتوضيح أسسها مجالاً واسعاً واهتماماً مميزاً في كتاب الله تعالى، يقول عز وجل: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (آل عمران: 110)، ويقول سبحانه: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92).
ودعانا جميعاً إلى الوحدة والاعتصام بكتاب الله وشرعه الحنيف، فقال تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ) (آل عمران: 103)، وجعل أساس العلاقة التي تجمع بين أهل الإسلام الأخوة الإيمانية، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات: 10)؛ فأبطل بذلك دعاوى الجاهلية من قبلية وجهوية وعرقية وطائفية.
الثاني: وحدة الأمة من تجليات الهجرة النبوية:
بعد تلك الإضاءات السريعة حول وحدة الأمة والدعوة القرآنية لها، ومع استحضار حدث الهجرة، فإننا سنجد تمكيناً عميقاً وتحقيقاً عملياً لوحدة الأمة في سيرتها ودروسها، نوجزها فيما يلي:
1- وحدة الهدف:
إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم وجه المهاجرين ومن ثم الأنصار الذين بايعوه في بيعة العقبة الثانية على النصرة، وجههم جميعاً نحو هدف واحد هو بناء الدولة الإسلامية في المدينة المنورة ليتسنى تحقيق تطبيق شرع الله وإقامة قيمه وتجسيد مبادئه، ولا شك أن وحدة الهدف الجامعة للأمة هي أهم دعائم وحدتها.
واليوم لو اتحد المسلمون على أهداف محددة ووجهوا بوصلتهم تجاهها وتعاونوا على تحقيقها لاستطاعوا نصرة إخوانهم والدفاع عن حقوقهم وهزيمة أعدائهم.
2- المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:
كان أول عمل قام به النبي صلى الله عليه وسلم عند وصوله إلى المدينة المنورة تطبيقاً عملياً لمبدأ الأخوة الإيمانية، فتحقق عبر هذه المؤاخاة المجتمع الإسلامي المتناغم الذي يجمعه هذا الدين العظيم بعيداً عن العصبيات الجاهلية المفرقة.
ولا شك أن أمتنا الإسلامية اليوم وقد اجتمع عليها أعداؤها من كل حدب وصوب بأمسّ الحاجة لاستحضار معاني ومبادئ الأخوة الإيمانية في واقعها حتى تنبذ الفرقة والاختلاف وتعود للوحدة والائتلاف.
3- الانطلاق من المسجد:
عندما وصل نبينا صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة اتجه مباشرة إلى بناء مسجده الذي غدا منارة لنشر الهدى والنور في العالمين.
وهو بهذا الفعل يؤسس للمجتمع المسجدي، ذلك المجتمع الذي يتمحور حول المسجد فيتواصل مع الوحي ويسمو بآياته فيكون ناشراً للخير داعياً لقيم الحق والعدل، فاعلاً في الحياة مؤثراً فيها.
وهذا الانطلاق من المسجد والاجتماع فيه والإيواء إليه له نتائجه التي لا تخفى على أحد من وحدة الصف وانسجام المجتمع وبناء الساجد الذي يفهم دينه ويعي حركة التاريخ.
4- وثيقة المدينة:
من أهم الخطوات التي سارع النبي صلى الله عليه وسلم في القيام بها عند هجرته للمدينة المنورة تلك المعاهدات مع اليهود الذين كانوا جزءاً من سكان المدينة، فكانت تلك الوثيقة التي حفظت لهم حقوقهم ووضعت حدوداً منصفة للتعامل معهم.
وهي وثيقة تؤسس للعيش المشترك والاعتراف بالآخر، ويتحقق فيها معاني الاعتراف والتعاون على البر والتقوى.
والنبي صلى الله عليه وسلم يبين من خلالها أن وحدة الأمة ليست البتة ضد التواصل الإنساني ولا هي في تقاطع معه، بل بالعكس تماماً، فالأمة الإسلامية تسعى لبناء الجسور والدعوة بالتي هي أحسن للتي هي أقوم، فهي أمة اجتمعت على هذا الدين العظيم الذي يرفع مكانة الإنسان، ويؤكد كرامته مهما كان دينه أو جنسه أو عرقه.
وهذه الأمة التي توحدت على منهج ربها لن تكون إلا في مواجهة المعتدين والبغاة المحاربين لقيم الخير والحق والعدل.