أوروبا هي القارة الأكثر ثراءً، والأكثر حرية، والأكثر انفتاحًا من أي وقت مضى، ومع ذلك فهي تشهد عودة الشرور السياسية التي لم تشهدها منذ نهاية الحرب الأهلية الأخيرة في عام 1945.
بالرغم من كل الأزمات الأوروبية وهي عديدة -الديون الإيطالية، الهجرة، الولايات الشرقية المزعجة، “البريكست” (Brexit)- بدا حتى وقت قريب نسبياً أن قيادة أوروبا السياسية كانت مازالت قوية ومستقرة.
ومع اقتراب فترة حكم أنجيلا ميركل التي امتدت 18 عامًا في ألمانيا من نهايتها بسبب الشيخوخة، بدا أن ظهور رئيس كاريزمي جديد لفرنسا مليء بالحيوية والنشاط هو إيمانويل ماكرون، يعتبر مؤشراً قوياً على سلوك ذات الطريق.
وبعد أن اختار الديمقراطيون المسيحيون في ألمانيا مرشح ميركل المفضل لخلافتها، آنجريت كرامب-كارينباور، بدا الأمر أن هناك تكافؤاً مع الفرنسيين الذين اختاروا إيمانويل ماكرون، ولو بطريقة أقل انتظامًا، ولكن فجأة تدخل أوروبا مرحلة جديدة أكثر خطورة في تطورها مع شعور ضعيف بالهدف.
حركة ماكرون السياسية المؤلفة من رجل واحد، “إن مارشيه!”، ومن المفارقات أنها تعني “المتحرك” يمكن أن تغفر للرئيس شعوره بالحيرة والمضايقة عندما يجلس، محاصراً في قصر الإليزيه، الذي صوّره متظاهرو “السترات الصفراء” بشكل متزايد كما لو كان تحت تأثير الــ”بوربون”(1).
وقد استسلم ماكرون، بعد كل شيء، على الرغم من موقفه الأصيل السابق، لمطالبهم بإلغاء الزيادات في رسوم الديزل والبنزين؛ وعرض عليهم إجراء محادثات، من خلال رئيس وزرائه إدوارد فيليب، وهي خطوة قد تنذر بعدد من كباش الفداء، فلم تكد إصلاحات ماكرون للاقتصاد الفرنسي تبدأ، حتي جوبه برد فعل عنيف ومتطرف يبدو أنه قد يتطور زخمًا قبيحًا من تلقاء نفسه.
فـ”السترات الصفراء” الآن تتحول وتنقسم إلى أجنحة سلمية وعنيفة، بعد أن ألهبتهم الدعاية والقصص الإخبارية المزيفة حول أن تصبح فرنسا جزءاً من عوالم الهجرة من أجل الملايين من المهاجرين، ويبدو أن البعض يبدون وكأنهم لا يريدون شيئاً أقل من استقالة الرئيس نفسه، وهل سيستمر الأمر كذلك لتحقيق ذلك؟ وهناك من يرغبون ببساطة في تسريح ماكرون، وعلى نحو ما، إعادة ترتيب الشؤون الاقتصادية لفرنسا حتى يتسنى للعمال مرة أخرى التمتع بمستوى المعيشة المرتفع الذي يتوقعونه.
وتبدو ظلال الحركات السياسية المماثلة في أمريكا وأماكن أخرى في أوروبا واضحة تمامًا، وبالفعل، ولكن بصورة أكثر خفوتاً، هناك نفس المشكلات التي تدفع ألمانيا في طريق إجراء انتخابات وطنية وإقليمية عامة.
وقد ظل التناقض لفترة من الوقت بين فرنسا وألمانيا مثيراً للاهتمام، إلا أن الحق أن كلا البلدين يعاني من نفس الضيق الاقتصادي والسياسي، وحتى في ألمانيا، التي حققت نجاحاً رائعاً في مجال التصدير، هناك قسم من الطبقة العاملة وبعض المناطق التي لم تشترك بالكامل في موجة المد والازدهار.
وفي كلا البلدين، نمت الأحزاب اليمينية المتطرفة بقوة وثقة إلى درجة لم يكن من الممكن تخيلها حتى قبل سنوات قليلة، ما أدى إلى القضاء على الاشتراكيين والديمقراطيين الاجتماعيين كقوة سياسية، وكذلك وقع الكثير في السويد وفي أماكن أخرى، وتبدو احتمالات انتخابات البرلمان الأوروبي في الصيف المقبل بشكل خاص رمادية، فقد يتم تحويل الهيئة التشريعية للاتحاد الأوروبي -التي اكتسبت صلاحيات مهمة- إلى لعبة للفاشيين.
وهكذا يجد الزعيم الجديد لألمانيا والقائد المحاصر في فرنسا نفسيهما يواجهان قوى مماثلة، وإن كان يتم التعبير عنها ومتابعتها بوسائل مختلفة، والواقع، أنه من الصعب العثور على زاوية في أوروبا –بما فيها بريطانيا- تجري فيها بشكل ما سياسة طبيعية على الخطوط التقليدية، عدا إيطاليا المثال البارز على الفاشية الحقيقية الجديدة في السلطة، فقد أقالت ما تسمى بـ”حكومة التغيير” في إيطاليا مجلس إدارة لجنة الخبراء الأكثر أهمية في البلد، الذي يقدم المشورة للحكومة بشأن السياسة الصحية.
أوروبا أكثر ثراءً، وأكثر حرية، وأكثر انفتاحًا من أي وقتٍ مضى، ومع ذلك فهي تشهد استرجاعًا للشرور السياسية التي لم نشهدها منذ أن أنهت قارتنا حربها الأهلية الأخيرة في عام 1945، إننا نعيش في أوقات خطرة، وقد مضي عهد الزعامات القوية والمستقرة القصير.
_______________
الهامش
(1) هو نوع من الخمور.
المصدر: “الإندبندنت”.