كان من الطبيعي أن تتجسد استراتيجيات اختطاف مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية في إحلال مؤسسات تعمل على تمكين هذا الاختطاف وترسيخه، محل المؤسسات التي كانت تمثل تجسيدًا للشريعة وتنزيلاً لأحكامها على أرض الواقع، وقد سبقت الإشارة إلى أن الدولة القومية الحديثة كانت إحدى أدوات الاستدمار في تحقيق الهيمنة على البلاد المستدمرة، وهذه الدولة تتشكل من سلطات عامة ثلاث تتولى الوظائف الأساسية في الدولة، وهي: التشريع، والتنفيذ، والقضاء، وتتبنى مبدأ “الفصل بين السلطات” ومبدأ “السلطة تحد السلطة” كي توقف أي تعارض أو تعسف أو تجاوز محتمل من أي من هذه السلطات على السلطة الأخرى.
وفي النهاية فإن الدولة تمتلك كل هذه السلطات، وتعد هي نفسها مرجعية لنفسها، وهو أمر مغاير لطبيعة توزيع السلطات في الخلافة الإسلامية وولاياتها، حيث كانت وظيفة التشريع تجد مرجعيتها الملزمة في الشريعة الإسلامية، بينما كان القضاء لا يتولى فقط الفصل في الخصومات، بل كانت له اختصاصات أخرى، بعضها يخص السلطة التشريعية حاليًا (مثل: توقيع العقوبات التعزيرية)، وبعضها يخص السلطة التنفيذية (مثل: وظيفة الاحتساب)، بينما قد يتولى الخليفة نفسه منصب القضاء إذا كان أهلا له، فلم يكن هناك فصل عضوي حقيقي بين وظائف الخلافة الأساسية، غير أن ضمانات عدم تغول سلطة على أخرى كانت أقوى منها في نظام الخلافة عنها في نظام الدولة القومية، لاعتماده على مرجعية شريعة حاكمة عصية على التبديل أو الاحتواء، ولو كان من الخليفة نفسه، فضلا عن ترسيخها للوازع الديني الذي كان يوفر على سلطات الدولة الكثير في الالتزام الذاتي بأحكام الشريعة، على عكس القانون حاليًا الذي يستنفر كل إمكانات الدولة كي يلزم الناس بالقوانين فلا يلتزمون إلا جبرًا غالبًا، خشية توقيع العقوبات عليهم، ما لم يجدوا مخرجًا، أو ركنًا يأوون إليه يحول بينهم وبين الحساب والعقاب.
والحاصل أن اختلاف بنية الدولة القومية ومؤسساتها عن بنية الشريعة الإسلامية ومؤسساتها، أدى إلى نوع من الاختطاف للشريعة الإسلامية، في جانب العلاقات والمؤسسات، ومن ذلك مثلاً:
1- إحلال البرلمانات محل علماء الشريعة الإسلامية، فقد كانت الشريعة الإسلامية بأيدٍ أمينة، هي أيدي الفقهاء المسلمين، الذين كان سلطانهم علمهم، وسلاحهم صلاحهم، فإذا بالمحدثين الجدد (من التحديث لا من علم الحديث) يستبدلون بالفقهاء مجالس نيابية تسن القوانين الوضعية الملزمة للقضاة والمواطنين، بعضها يخالف أحكام شرعية قطعية، والكثير منها يؤسس لتمكين مؤسسات الدولة من مفاصل المجتمع، لاسيما أن هذه البرلمانات لم تقم في الواقع على أسس ديمقراطية حقيقية، بل استنادًا إلى انتخابات غير نزيهة غالبًا، تسفر عن اختيار نواب عن الحكام لا عن الشعوب، ومن ثم لم تكن أياديهم أمينة، لا على الشعوب ولا على الشريعة، وحتى إن حصل بعض من الشرفاء على عضوية تلك المجالس فقد كانوا أقلية تستجدي “ديكتاتورًا” لتطبيق الشريعة الإسلامية التي إن طبقت بحق ستزيحه عن الحكم لتسلطه واستبداده وفساده، ومن ثم كان طبيعيًا أن يرفض الحكام هذا المطلب، أو يوافق عليه بعض الجائرين منهم ظاهريًا -بشكل مؤقت- لاكتساب شرعية لدى الجماهير المتعطشة لإنفاذ شريعة دينهم، أو لتحويل الشريعة السمحة الغراء إلى “قفاز” يستخدمه الحاكم المستبد في ارتكاب جرائمه حتى لا تظهر “بصماته الواشية”(24(.
ومن ثم فقد كانت المحصلة هي فشل كل المحاولات البرلمانية لتعميم الشريعة الإسلامية في واقع المسلمين منذ إقصائها عن التطبيق على أيدي قوى الاحتلال الإنجليزي، بل وعجزت تلك البرلمانات العربية في معظمها عن تسويد القانون الوضعي نفسه في غالب الأحيان، ورسخت تسويد السلطة التنفيذية بلا رقيب أو حسيب، فلم تعد السيادة في الدولة القومية العربية -في الحقيقة- لا للشريعة ولا للقانون، وإنما للحاكم وحده منفردًا، ومن ثم افتقدت المجتمعات العربية لتحقيق العدالة والمساواة وغيرها من قيم الشريعة الإسلامية وروحها!
2- استبدال المحاكم الوضعية بالمحاكم الشرعية: كان الشغل الشاغل للاستدمار الغربي هو السيطرة على القضاء، والفصل بينه وبين المرجعية الشرعية الإسلامية(25). ولذلك فرض النظام القضائي الغربي هيكليًا بعد أن فرض التشريعات الغربية من قبل -نصوصًا ومرجعية-، وذلك سواء بقرار مباشر منه -مثل فرض المحاكم القنصلية والمختلطة في مصر-، أو بأيدي الحكومات المستبدة التي زرعها في البلاد بعد سحب جنوده من أراضيها نظرًا لاقتناعه بوجود أسلحة جديدة بديلة تفرض هيمنته الكاملة من الخارج، ومن ثم لجأ إلى تنصيب حكام من الداخل يمكن التحكم فيهم وتوجيههم كذلك.
ولذلك فإن المحاكم الشرعية أُلغيت في كثير من البلاد الإسلامية بقرارات حكومات تنتمي إلى هذا البلاد، مثلما حدث في تركيا (بدءًا من الإلغاء الجزئي عام 1847م، ثم الإلغاء الكلي للمحاكم الشرعية في عام 1924م) وفي مصر (عام 1956م)، وذلك بعد سلسلة طويلة من الحصار المضروب عليها من قبل الدولة، حيث نُقلت تبعيتها إلى وزارة العدل عام 1880م، ثم تدنت مرتبتها من المحاكم الوحيدة في القطر المصري، إلى المرتبة الثالثة سنة 1883 (بعد الاحتلال البريطاني بعام واحد فقط) خلف كل من المحاكم المختلطة والمحاكم الأهلية، كما اقتصرت اختصاصاتها على الأحوال الشخصية والوقف والهبة فقط(26)!.
وليت الأمر انتهى عند فصل القضاء عن مرجعيته الشرعية والفقهية، ولكن الحقيقة أنه تم فصله كذلك –بالتدريج- عن الاستقلالية تجاه السلطة، الممثلة في الحاكم وحكومته –السلطة التنفيذية- حيث نادرًا ما تمتع القضاء نفسه بالحرية والاستقلالية، مثله مثل “المواطنين” تمامًا، وفي هذا فصلُ آخر عن المرجعية الإسلامية التي لا تجعل هناك سلطانًا على القاضي سوى إيمانه وشريعة ربه وضميره، فإذا به في الدولة الحديثة المستوردة –شكليًا وهيكليًا- يخضع لسلطان فرعوني متألٍّ؛ فكان هذا هدرًا آخر للمفهوم الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية، ولاسيما قيمها العليا، التي تأتي على رأسها قيم ومبادئ العدل والشورى ومسؤولية الرعاة (الحكام) وسيادة الشريعة!
3- تأميم الدولة للمؤسسات والوظائف الدينية: من المعلوم أن الإسلام يرفض الكهنوت، ولا يعرف صكوك الغفران، حيث يستعيض عنها بإتاحة التواصل للفرد مع المولى عز وجل دون حائل أو وساطة، وأنه على الرغم من المحاولات الكثيرة للهيمنة على الدين إلا أنه ظل عصيًا على الانصياع الكامل لكافة المحاولات التي جرت للسيطرة عليه وتوظيفه في خدمة الطغيان، إلا أن هذه المحاولات ظلت مستمرة، ونمت في عهود الاحتلال الأجنبي العسكري المباشر، والذي فرض تبعية المؤسسات الدينية للدولة الحديثة، وعطل كل ما من شأنه مد يد العون للإبقاء على استقلالية تلك المؤسسات، فحرمها -على سبيل المثال- من الأوقاف المخصصة لها وللقائمين عليها حتى تحولوا إلى مجرد موظفين ينتظرون رواتبهم من الدولة بعد أن كانوا يعتمدون –إلى جانب عوائد ممارستهم مهنهم الحرة- على مخصصات مالية موقوفة لهم من صفوة المجتمع المنفقين أموالهم في سبيل الله وفي نصرة دينه وشريعة ربهم، مما أثر بالسلب على التعليم الديني وعلى الاجتهاد الشرعي الذي كان لا قيد عليه سوى قواعد أصولية عامة ومجردة تستهدف ضمان الاستنباط الصحيح للأحكام الشرعية بقدر الإمكان البشري، فأصبح محاطًا ببيئة استبدادية لا يأمن فيها المجتهدون على أنفسهم ولا على أرزاقهم، فقُيدت حريتهم، وسُلب منهم الأمان، وتحولت المؤسسات الدينية –أو كادت تتحول- إلى التوقيع عن الحاكم المستبد لا عن الله رب العالمين، وحُرمت الشريعة الإسلامية من مجتهدين يتصفون بالشجاعة والإخلاص تحميهم مؤسسات دينية مستقلة، بعد أن أممت الدولة الدين وباتت المتحكمة فيه وفي تأويله الصحيح(27(.
ومن أهم مظاهر هذا التحكم ما حدث في مصر –على سبيل المثال- من إنشاء دار الإفتاء وجعل تبعيتها للدولة، ممثلة في وزارة العدل، بدءًا من عام 1895م، بعد أن كان الإفتاء قبلها يتولاه علماء الأزهر اعتمادًا على مكانة الأزهر، الذي كان رجاله (مفتين) بثقة الناس فيهم دون حاجة لتعيين الدولة، كما أنهم كانوا يحتكرون مناصب التعليم والقضاء، قبل أن تزاحم الأزهر دور التعليم العلمانية الحديثة، من مدارس وجامعات على النسق الغربي، فضلًا عن محاصرة الأزهر نفسه بإصدار رئيس الجمهورية القانون رقم 3 لسنة 1961م بشأن تنظيم الأزهر والهيئات الذي أفقد الأزهر استقلاله تمامًا، وأدمجه في النظام التعليمي الرسمي ونقله “من وضعية المدرسة الفقهية إلى وضعية الجامعة العلمانية والمؤسسة الرسالية(28).
وقد حدث لنظام الوقف الإسلامي، ما حدث للأزهر الشريف وللمحاكم الشرعية، حيث تحول من نظام مستقل أسهم بقوة في تشييد الحضارة الإسلامية، إلى نظام تابع للدولة يخضع لإدارتها المركزية، وتقوم عليه “وزارة الأوقاف” كما سميت في غالبية دول العالم الإسلامي، كما هو معلوم.
وهذه بعض النماذج والتغيرات التي فرض معظمها الاحتلال الأجنبي على دول العالم الإسلامية، ثم على دول ما بعد الكولونيالية التي خلَّفَها من بعده، ليضمن أن تسير بمنهجه ووفق إرادته، وهي كلها تغييرات أسهمت في استمرارية اختطاف الإسلام، وتحريف مفهوم تطبيق شريعته، حيث بات المطلوب الآن هو تطبيق الشريعة عبر سن البرلمان لقوانين وضعية متفقة مع الشريعة، لا الشريعة نفسها مستمدة من مصادرها وفق أصول الفقه وبالاختيار من الفقه الآخذ عنه، على أن يطبقها القضاء العلماني المكبل من قبل الدولة، لا القضاء الشرعي المستقل كما كان في غالبية التاريخ الإسلامي وفق مبادئ الشريعة وقيمها، وبتحديد من خريجي مؤسسات تعليمية علمانية، أو دينية صودرت استقلاليتها ونقلت تبعيتها إلى بيروقراطية الدولة، بعد أن ألغيت الأوقاف التي تدعمها بل وألغيت بالكامل في كثير من الأحيان.
ألم يكن هذا اختطافا بالكامل لتطبيق الشريعة مفهومًا وهياكل ومؤسسات وبنية تعليمية وثقافية واقتصادية؟!
—–
(23) انظر: حازم علي ماهر، تطبيق الشريعة الإسلامية والنصوص الدستورية، مرجع سابق، ص198.
(24) انظر: خالد محمد خالد، تقنين الشريعة يبدأ من هنا، مقال منشور ضمن الكتيب غير الدوري: حقوق الإنسان العربي، والذي تصدره المنظمة العربية لحقوق الإنسان، في 30 من مارس 1985م، ص9.
(25) لعل من أوضح البراهين على ذلك، ما صرح به اللورد كرومر –وهو القنصل البريطاني والحاكم الفعلي لمصر في الفترة منذ عام 1883 حتى 1907م- في رسالته –عام 1896م- إلى رئيس وزراء بريطانيا آنذاك (اللورد ساليسبري) “ثمة علاج أوحد وفعال للموقف، وهو إلغاء المحاكم الشرعية بوصفها مؤسسة مستقلة كليًا، ونقل ولايتها القضائية إلى المحاكم المدنية العادية. وهو ما قد تم في الهند قبل عدة سنوات، وأنا لن أيأس أبدًا من تحقيق تغير مشابه لم يسبق له الحدوث في مصر”. نقلاً عن: عزة حسين، سياسات تقنين الشريعة، النخب المحلية، والسلطة الاستعمارية، وتشكل الدولة المسلمة، ترجمة: باسل وطفة، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، 2019م، ص287.
(26) انظر: جاكوب سكوب فجارد- بيترسون، إسلام الدولة المصرية- مفتو وفتاوى دار الإفتاء، ترجمة: أ. د. السيد عمر، الكويت- لبنان: دار نهوض للدراسات والنشر، ط1، 2018م، ص94-97. وراجع مزيدًا من مثل تلك التغيرات التي حدثت في النظامين القانوني والقضائي في العالم الإسلامي على يد الاحتلال الأوروبي في: محمد أحمد سراج، “الفقه الإسلامي والتغير القانوني في البلاد الإسلامية في القرن العشرين” المنشور ضمن كتاب: الأمة في قرن- عدد خاص من “أمتي في العالم”، حول قضايا العالم الإسلامي، 1420-1423هـ- 2000- 2001، الكتاب الثاني: الأمة في قرن- خبرة العقل المسلم- خبرات وتطورات وحوارات، مركز الحضارة للدراسات السياسية، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2002م، ص218-242.
(27) انظر لمزيد من التفصيل عن تأميم الدولة للدين ولمؤسساته: سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل، قراءة في دفاتر المواطنة المصرية- الزحف غير المقدس- تأميم الدولة للدين، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 1426هـ/2005م.
(28) جاكوب سكوب فجارد- بيترسون، إسلام الدولة المصرية- مفتو وفتاوى دار الإفتاء، مرجع سابق، ص242.
——
(**) باحث مصري مهتم بدراسة الشريعة الإسلامية وتطبيقاتها في الدساتير والقوانين المعاصرة، حاصل على الدكتوراة في القانون العام والشريعة الإسلامية.
والمقال من بحث محكم منشور في مركز “رؤيا للبحوث والدراسات“.