في عصر تتسارع فيه وتيرة الحياة وتتشابك فيه القيم وتغزو فيه الحضارة الغربية عقول وقلوب مليارات البشر عبر أبواقها الدعائية، يبرز السؤال الملح: كيف يمكننا تطبيق المنظومة الأخلاقية القرآنية في حياتنا اليومية؟ وهو ليس مجرد تساؤل نظري، بل صميم التحديات التي تواجه المجتمعات الإسلامية المعاصرة.
فالأخلاق القرآنية ليست مجرد نصوص جامدة، بل تعاليم حية قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان، ما يفتح الباب أمام إستراتيجيات عملية لتجسيد هذه الأخلاق في واقعنا المعاصر، ومنها ما اقترحه العلامة الراحل د. يوسف القرضاوي، في كتابه «الخصائص العامة للإسلام».
يؤكد القرضاوي، في كتابه، ضرورة ربط الأخلاق بالعبادات والمعاملات اليومية، وهو الربط الذي يجعل الأخلاق جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية للمسلم، بدلاً من كونها مجرد شعارات نظرية.
وفي السياق ذاته، يقدم العلامة الراحل د. محمد عمارة، في كتابه «بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية»، رؤية لكيفية تطبيق الأخلاق القرآنية في ظل التحديات المعاصرة، مؤكداً أن الأخلاق القرآنية تقدم حلولًا متوازنة للقضايا الأخلاقية المعقدة التي تواجهها المجتمعات الحديثة، من خلال الجمع بين الثبات في المبادئ والمرونة في التطبيق.
وفي كتابه «الإصلاح الجذري: الأخلاق الإسلامية والتحرر»، يقترح د. طارق رمضان نهجًا يقوم على إعادة قراءة النصوص القرآنية في ضوء الواقع المعاصر، مع الحفاظ على روح النص وجوهره، وهو ما يراه نهجاً يمكن أن يساعد في تطوير إستراتيجيات أخلاقية تتناسب مع تعقيدات العصر الحديث.
كما يشدد د. عبدالكريم بكار، في كتابه «تجديد الوعي»، على أهمية ربط الأخلاق القرآنية بالتحديات المعاصرة مثل قضايا البيئة والتكنولوجيا والعولمة، بما يساعد في جعل الأخلاق القرآنية أكثر ارتباطًا بواقع الناس وتحدياتهم اليومية.
وفي مجال التربية والتعليم، تقدم د. سعاد الحكيم، في كتابها «التربية الأخلاقية في الإسلام»، إستراتيجية تعتمد على دمج المفاهيم الأخلاقية القرآنية في المناهج الدراسية بطريقة عملية وتفاعلية، بما يساهم في غرس القيم الأخلاقية في نفوس الأجيال الناشئة.
وتؤيد الدراسات الاستقصائية ما تقدمه الطروحات الإسلامية النظرية بشأن تفعيل منظومة القيم القرآنية كسبيل أوحد بمواجهة مد العولمة القيمية الغربية، الذي يقوم على تذويب كل الثقافات غير الغربية وصهرها في بوتقة حداثية، وهو ما كشفت عنه دراسة أجرتها جامعة الأزهر عام 2020م، تبين أن 72% من المشاركين يعتقدون أن تطبيق الأخلاق القرآنية يمكن أن يحل الكثير من المشكلات الاجتماعية المعاصرة.
وتعكس هذه النتيجة وعيًا متزايدًا بأهمية الأخلاق القرآنية في معالجة قضايا العصر وليس قضايا التراث والتاريخ فقط، ما يعني أن الطرح الإسلامي لا يعاني إشكالاً كبيراً في إقناع أغلب الجمهور في أمتنا الإسلامية حتى الآن.
ففي دراسة أجرتها جامعة الملك عبدالعزيز بجدة عام 2021م، تم تطبيق برنامج تدريبي قائم على الأخلاق القرآنية في عدد من المدارس الثانوية، وأظهرت النتائج تحسنًا ملحوظًا في السلوك الأخلاقي للطلاب بنسبة 42% مقارنة بالمجموعة الضابطة.
وفي المقابل، تبين دراسة استقصائية أخرى، أجراها مركز «بيو» للأبحاث عام 2018م في 5 دول إسلامية، أن 68% من المشاركين يرون أن هناك فجوة بين القيم الأخلاقية القرآنية والممارسات اليومية في مجتمعاتهم، ما يسلط الضوء على الحاجة الملحة لإستراتيجيات عملية لردم هذه الفجوة.
وإزاء ذلك، فإن فعالية التدخلات التربوية المبنية على القيم القرآنية تبدو مرجحة النتائج في أغلب البيئات الاجتماعية العربية والإسلامية، شريطة استخدام أهم سلاح يقوم عليه عولمة نموذج الثقافة الغربية، وهو الإعلام بشقيه؛ التقليدي والاجتماعي.
ففي دراسة أجراها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عام 2019م، تبين أن 75% من الشباب العربي يرون أن وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تؤدي دورًا إيجابيًا في نشر القيم الأخلاقية القرآنية إذا تم استخدامها بشكل صحيح.
وفي هذا الإطار، يشدد د. فهد الحمودي، في كتابه «الإعلام الجديد والأخلاق» (2020م)، على ضرورة تبني إستراتيجية لنشر الوعي الأخلاقي القرآني عبر منصات التواصل الاجتماعي باستخدام أساليب جذابة ومبتكرة، تستهدف الوصول إلى شريحة واسعة من الشباب الذين يقضون وقتًا طويلاً على هذه المنصات.
وفي تقديرنا، فإن تطبيق المنظومة الأخلاقية القرآنية في الحياة اليومية يتطلب نهجًا متكاملًا يجمع بين الفهم العميق للنصوص القرآنية والوعي بتحديات الواقع المعاصر، هذا النهج يجب أن يركز على تحويل المفاهيم الأخلاقية إلى ممارسات عملية في مختلف مجالات الحياة، وفق إستراتيجيات عملية، منها:
1- تطوير برامج تدريبية تفاعلية تركز على تطبيق الأخلاق القرآنية في مواقف الحياة اليومية.
2- إنشاء منصات رقمية تقدم محتوى أخلاقيًا قرآنيًا بأسلوب عصري يجذب الشباب.
3- تشجيع المبادرات المجتمعية التي تطبق القيم الأخلاقية القرآنية في مشاريع خدمية وتنموية.
4- إدماج التربية الأخلاقية القرآنية في المناهج الدراسية بطريقة عملية وتفاعلية.
5- تنظيم حملات توعية مجتمعية تسلط الضوء على أهمية الأخلاق القرآنية في حل المشكلات المعاصرة.
غير أن تحقيق هذه الإستراتيجيات يتطلب تضافر جهود المؤسسات الدينية والتربوية والإعلامية، إلى جانب مشاركة فعالة من أفراد المجتمع، كما يتطلب مراجعة مستمرة وتطويرًا للأساليب والوسائل بما يتناسب مع المتغيرات المجتمعية والتكنولوجية.
إن تطبيق المنظومة الأخلاقية القرآنية في الحياة اليومية مشروع متجدد يتطلب جهدًا فكريًا وعمليًا مستمرًا، وتحدياً يدعونا للتفكير النقدي والإبداعي في كيفية تجسيد هذه القيم في سياقات متغيرة، مع الحفاظ على جوهرها الأصيل، فالأخلاق القرآنية ليست مجرد نصوص تتلى، بل منهج حياة يجب أن يترجم إلى واقع ملموس في حياتنا اليومية.