بدا لي أن الخطاب الذي ألقاه د. جمعان الحربش في ساحة الإرادة تحت عنوان “نقاط الحق على حروف الحقيقة” حافلاً بالرسائل السياسية التي وجهها في أكثر من اتجاه وعلى أكثر من صعيد.
بدا لي أن الخطاب الذي ألقاه د. جمعان الحربش في ساحة الإرادة تحت عنوان “نقاط الحق على حروف الحقيقة” حافلاً بالرسائل السياسية التي وجهها في أكثر من اتجاه وعلى أكثر من صعيد.
برغم غياب د. الحربش وزملائه في المعارضة عن “ميدان” الإرادة لأكثر من عامين منذ آخر دعوة تمت للاحتشاد على إثر أزمة الإيداعات والتحويلات؛ فقد ظهر عليه التمكن أمام الحشود الحاضرة – قدَّرتها إحدى المحطات الفضائية بـ20 ألفاً – وكان رابط الجأش، شديد التركيز، برغم حساسية المرحلة، وسخونة الأحداث، ومستوى الترقب والتحفز الذي ينتاب كافة أطراف الاستقطاب الأخير؛ على إثر القضية المحذور الخوض فيها.
من أهم الرسائل التي حفل بها خطاب الحربش استهلاله بالدعوة لتوحيد الصفوف، والثبات والصبر عبر أبيات شعرية – أظنها من نظمه – يستحث بها المجتمع بفئاته وأطيافه إلى التكاتف والتعاضد أمام موجة جديدة من ترددات ملفات الفساد التي توالت على الساحة السياسية دون أن تجد لها رادعاً من الموجة التي سبقتها، بل تزداد ارتفاعاً وتمدداً كلما جاءت موجة لعنت أختها!
تذكرت لحظتها الاستفهام القرآني الذي جاءت به الملائكة عندما بُعث آدم عليه السلام حين أَبلغ الربُ سبحانه ملائكتَه: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة:30)؛ فكان استفهامهم: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء) (البقرة:30)، وهي إشارة مهمة إلى ميثاق أخلاقي غايته ألا يصل المجتمع الإنساني لدرك الحضيض بإفساده وسفك الدماء الحصينة، يرى البعض أن الموجة الجديدة بلغت هذا الدرك بما استقر في يقينهم من معلومات وإثباتات.
ندد جمعان في خطابه بالذي يتماهى مع الفاسدين من ذوي المرجعية الإسلامية ممن أدمن إنكار حراك الشعوب ضد الاستبداد والفساد، فأسماهم بعلماء السوء، وسمى فتاواهم بـ”المظلمة”، واستدل بقول الله تعالى: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً) (الأنفال:25)، وذكّر بجهود العلماء الذين أفنوا حياتهم في القيام بحق الله في أرضه وبين عباده، لا أن ينبري بعضهم وعلى طول الخط ليكون في كف الفسدة يستقوون ويقزمون وفقاً لما يطلبون.
لم يفت جمعان في خطابه استذكار رفاق نضاله الذين تملأ أروقة المحاكم قضايا الحراك السابق، ومازالت تلقي بظلالها عليهم حتى اليوم، حرص على التأكيد في خطابه على امتداد المسار الإصلاحي منذ أن انطلقت شرارته في العام 2009م، وأن التضحيات التي بُذلت ما فتت عزيمتهم ولا استكانت ضمائرهم نتيجة الأحكام التي يتوالى إصدارها في حقهم.
حاول جمعان الذهاب مع متلقي رسائله إلى أبعد مدى حين افترض زيف الوثائق المقصودة، وأكد تمرسه السياسي حين طرح مبادرة للقطع بجدلية صحة الوثائق عبر تكليف جهة دولية فنية محايدة تتولى التحقيق – سبق للحكومة تجربة هذه الآلية في ثروات صدام – تكون حكماً فيما يجري عرضه حسماً للغة التشكيك وتضليل الرأي العام من أي طرف، وهو بهذا يؤكد مرونة الخطاب والتقدم خطوة في اتجاه الخروج من الموجات الصادمة التي تتكشف بين وقت وحين، خاصة حين طرح فكرة بديلة باصطفاء نخبة عليها توافق وطني مشهود لها بالنزاهة والكفاءة تتولى التحقيق في صحة المعلومات والوثائق الواردة.
في الأحداث الراهنة الكثير من الزوايا الحادة، فكل ملف فيها يمثل “كارثة وطنية” في نظر جمعان ورفاقه، الأمر الذي رفع من سقف خطابه باعتبار بعضها يمثل “خيانة عظمى”، وهو ما يعد انعطافة جديدة في لغة المعارضة السياسية بعد أن كان الحديث عن التفرد والفساد صارت تَنحى باتجاه حادٍ أكثر، ولعل في هذا رداً على من حاول توصيف المواجهة بأنها بين طرفين حامت حولهما شبه الفساد، بينما في هذا العنوان يحاول أن يلفت الأنظار أننا إزاء خيانة وفساد لا فساد وإفساد، وفرق بين الاثنين عظيم!
اشتمل الخطاب على رسائل أخرى، لكن مساحة المقال – كالعادة – لا تستوعب الكثير الذي يستحق التعليق عليه، استوقفني تعبير استشهد به جمعان كتبه أحد المغردين: “الجو حار لكن من يتصبب عرقاً في مكان آخر”! تلك الجملة التي حاول أن يختم رسائله للجماهير المحتشدة في ميدان الإرادة تعبيراً عن سخونة الجو، وتكبد الحضور عناء الانتظار والوقوف الطويل، لكن لخص حالة الترقب والقلق التي تنتاب آخرين بتعبير تصبب العرق كأثر من آثار حشد الإرادة، وبشر كما هي لغته الدائمة في ختام خطاباته بقرب خروج رفاقه من دوامة القضايا والتهم التي حاولت تكبيل حراك الفترة الماضية، مجدداً الدعوة لاصطفاف وطني أمام هذه الموجات المتوالية.
معكم أكرر الدعاء الذي أمّن الجمهور خلفه حين ودعهم “اللهم أبرم للكويت وأهلها وشبابها أمر رشد يعز فيها أهل الشرف والمروءة”.
s-madwani@hotmail.com