يعاني مجتمعنا من أزمات عدة، على رأسها أزمتان أساسيتان؛ الأزمة الأولى هي الأزمة الفكرية، والفكرة هي التي تؤثر في السلوك، فالإنسان لا يستطيع أن يسلك طريقاً إلا إذا كان يعرف أنه يؤدي به إلى وجهته، وإذا كان تصوره خطأ يمكن أن يسير في الاتجاه المضاد.
أما الأزمة الثانية فهي الأزمة الأخلاقية، ونحن أيضاً، نعاني من أزمة أخلاقية ولكن لا بد من تصحيح الفكر أولاً، ولذلك كان أول ما نزل من القرآن الكريم هو قول الله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1}) (العلق) صدق الله العظيم، والقراءة مفتاح العلم والفكر، ثم بعد ذلك جاء العمل والأخلاق في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ {1} قُمْ فَأَنذِرْ {2} وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ {3} وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ {4} وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ {5} وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ {6} وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ {7}) (المدثر) صدق الله العظيم.
فلا بد أن يأتي السلوك والأخلاق بعد تصويب الفكر وتصحيح منهج النظر؛ ومن أجل هذا اهتممت بهذا الجانب الأخلاقي، والإسلام رسالة أخلاقية، قال النبي محمد عليه الصلاة والسلام: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، والأخلاق هي صورة إيمانية إسلامية، ويوضحها قوله سبحانه وتعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ {1} الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ {2} وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ {3} وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ {4} وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ {5} إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ {6} فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ {7} وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ {8}) (المؤمنون) صدق الله العظيم، وهذا يعني أن الإيمان يصور في أخلاق.
ومن ذلك أيضاً: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره”، فالإيمان والعقيدة يتمثلان في أخلاقيات.
العبادات أيضاً لها أهداف أخلاقية وفي ذلك يقول الله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) (العنكبوت:45)، ويقول رسوله صلى الله عليه وسلم: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعام وشرابه”، ويقول الله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) (التوبة:103) صدق الله العظيم.
وهذا يؤكد أن للأخلاق قيمة كبرى في رسالة الإسلام، ونحن نقرأ قول الشاعر:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وقول الشاعر:
إذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتماً وعويلاً
لا نستطيع أن نرتفع بمستوى أمتنا إلا إذا ارتفعنا بمستوى أخلاقها، ما الذي جعل بلداً مثل اليابان يتقدم في صناعته، ويغزو أسواق العالم، ويكتسح حتى المنتجات الأمريكية والأوروبية؟ إنها مجموعة من الأخلاقيات: الدأب والصبر والعمل وغيرها، والمفروض أننا نحن المسلمين نتعبد بالعمل لكن أحد بلادنا العربية شهد منذ سنوات إحصاء لمتوسط ساعات عمل الفرد، فوجد أنه حوالي نصف ساعة يومياً! فأين تذهب أوقات الناس؟ وأين تذهب جهودهم كذلك؟ لذلك لا بد من الأخلاق.
نجد أيضاً أنه إذا ذكرت كلمة الأخلاق فإنهم يتصورونها في العلاقات الجنسية، كأن الأخلاق تعني فقط التعفف عن الزنا والخمر وغيرهما، وهذا جزء من الأخلاق لكن الأخلاق أعم من ذلك، فهي تشمل كل ما يتصل بالحياة الإنسانية، فردية وأسرية واجتماعية واقتصادية وسياسية، لأن الأخلاق عندنا نحن المسلمين لا تنفصل عن السياسة، والأخلاق لا تنفصل عن الاقتصاد، والأخلاق لا تنفصل عن الحرب.
لكن الأمر مختلف عند الغربيين، فالاقتصاد شيء والأخلاق شيء آخر، السياسة شيء والأخلاق شيء آخر، الحرب شيء والأخلاق شيء آخر؛ ولذلك نرى عندهم النظرية “الميكافيلية” التي تقوم على أن الحاكم إذا أراد تحقيق نهضة أو تقدم لبلده فلا يبالي بما سفك من دماء، ولا ما انتهك من حرمات، ولا بما ضيع من حقوق، ومن أجل هذا فإن الغاية عندهم تبرر الوسيلة.
أما بالنسبة لنا فإن الغاية لا تبرر الوسيلة، ولا بد من الغاية الشريفة والوسيلة النظيفة، والدين الإسلامي لا يجيز الوصول إلى الحق بطريق الباطل، ولكن لا بد أن نصل إلى الحق بالحق، فلا يجيز مثلاً للإنسان أن يأخذ الرشوة ويأكل الربا ويكسب المال الحرام ويقول: أبني به مسجداً أو داراً للأيتام أو مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم.. إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ولذلك كان التركيز على مسألة الأخلاق.
المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.