بات الطبيب المصري محمد مشالي، الملقب بـ»طبيب الفقراء»، أيقونة مميزة بسماء مصر في القناعة والعطاء، لم يؤثر فيهما عمره الذي وصل محطته الثمانين، فهو يتحدث بروح شاب في مقتبل العمر، ويدافع عن الفقراء كأنه وزيرهم، ويتجاوب مع مرضاه من الأطفال كملاك رحمة يطببهم بإذن الله بأقل التكاليف.
التقته «المجتمع» في عيادته الصغيرة بهذه العمارة القديمة التي تحمل رقم (16) بجوار المسجد الأحمدي أحد أشهر المساجد بوسط الدلتا وبالتحديد في مدينة طنطا بمصر، وسط كمّ كبير من رواد عيادته من الفقراء الذين ارتحلوا من أماكن عدة لمقابلته جراء أجر زهيد للغاية، يتراوح بين 5 و10 جنيهات مصرية فحسب، مقابل فاتورة رائجة بأماكن أخرى في أنحاء الجمهورية ومدينته كذلك تقدر بمائتي جنيه أو مائة على الأقل.
للطبيب محمد مشالي عيادتان كذلك بجوار مدينة طنطا في قريتي محلة روح وشبشير الحصة مصنع عسل النحل، لا يكل فيهما بجانب عيادته بجوار المسجد الأحمدي، من تقديم رسالة مستمر فيها منذ تخرجه في كلية طب قصر العيني عام 1967م بتخصص أمراض الباطنة العامة والسمنة.
همس أحد رواد عيادته في أذني قائلاً: «لقد رفض رحلة عمرة عبر طيران الدرجة الفاخرة من أجل الاستمرار في استقبال رواده من الفقراء»، وحدثني كثيراً عن حب الناس له وتكريمه في أكثر من موقع قبل أن أتمكن بعد انتظار ثلاث ساعات على بابه آثرته «المجتمع» تعاطفاً مع الأهالي الذين ينتظرون ترتيبهم في الدخول على أحرّ من الجمر ومعهم فلذات أكبادهم.
للفقراء حياتي
في البداية، يرى د. مشالي أن الله عز وجل خلقه من أجل الفقراء، ومن أجل رسالة يقدمها لهم عبر الطب، ويقول، بلغة عامية مصرية تكررت كثيراً: «أنا خُلقت للفقراء وربنا هيَّأني لهم، وهذه رسالتي منذ كنت طالباً للطب بالستينيات في قصر العيني –أبرز معاهد الطب الرسمية في مصر– وتعلمت على يد عمالقة الطب وقتها».
يضيف نظرة أخرى تفسر حرصه المبالغ فيه، كما يقول البعض، على القناعة واستمرار العطاء، قائلاً: “تعلمت أن الطب طب وليس مادة ومالاً، وكانت القاعدة الأولى أمامي أن من يريد أن يبني برجاً سكنياً، أو يصنع مالية كبيرة يذهب للعمل في البورصة أو الاستيراد والتصدير”، مضيفاً أن النصيحة التي تحصلت عليها من أساتذتي وكانت أساس حياتي هي “لا تصنع مالية كبيرة من بيوت الغلابة”.
التساؤلات كثيرة عن كيفية إدارة عياداته بأقل التكاليف، لكن إجابته كانت بسيطة ودقيقة في الوقت ذاته، حيث قال: “الكشف رخيص لأن المصروفات يتم ضغطها؛ فالأشياء التي لا داعي لها لا أقول ولا أنصح بها، التي يمكن أن نستغني عنها أستغني عنها فوراً حتى نصل إلى كشف مناسب للفقراء”.
“أديرها بأسلوب اقتصادي”.. هكذا أكد د. مشالي، موضحاً أن الله عز وجل منحه كل شيء من وقت وصحة وعلم؛ ولذلك فهو يركز على تذليل كل المشكلات أمام الفقراء، ولا يتوقف عن استكمال عطائه مهما كانت الأسباب.
واصل الطبيب المحبوب من أهالي مدينته حديثه، وبجواره المئات من الجرائد القديمة، وأجهزة طبية بسيطة للغاية في مكتبه المتواضع بملابسه الزهيدة، التي لا تتكرر في عيادات كبار الأطباء في مثل سنه، ولكن كان السؤال حاضراً يقاطع استرساله: لماذا لا تفعل مثل باقي الأطباء وتكون عيادتك أكبر وبإمكانات أفضل وبشكل أفخم كما هي العادة؟ فرد سريعاً: “ليس لي بهم علاقة، كل واحد ومبادئه”، ثم أضاف مؤكداً أنه ليس من هواة شراء السيارات الفارهة ويكفيه أقل القليل، فبينما يحرص بعضهم على شراء “الكباب” يكفيه هو -حسب تعبيره- “ساندويتش طعمية”!
أعامل ربنا
الأمور بسيطة جداً لدى د. مشالي، كما يقول، ويوضح أولوياته قائلاً: «إذا عرض عليَّ أحدهم ديكاً رومياً أو كتاباً لعميد الأدب العربي الراحل د. طه حسين أقول له: أحضر فوراً كتاباً لطه حسين، فأنا رجل أعشق القراءة وليس لي تطلعات أو طموحات عالية، لا أذهب لشرم الشيخ –مدينة في مصر للسياحة المرفهة- ولا أميل للفسح كثيراً، أنا رجل من العيادة للبيت ومن البيت للعيادة».
الفكرة الحالية للأسعار جاءت له من “اختلاطه دائماً بالطبقات الكادحة المطحونة”، كما يصفهم، وعمله في الوحدات الطبية بريف مصر، الذي كشف له عن أن “الفقر ضارب بجذوره في هذه الأماكن”، كما يقول؛ مما جعله يتعاطف مع الفقراء دائماً، وفق تأكيده.
“هل تتلقى تبرعات تساند رسالتك؟”.. كان سؤالنا الذي وقف أمامه لحظة قبل أن يستكمل حديثه قائلاً: “أرفض التبرعات، ولكن هناك من أثق بهم، يحضر مساعدات لوجه الله، ولكن هؤلاء قلة، وأنا لا أقبل إلا في أضيق الحدود وأقل نطاق”.
“أنا أعامل ربنا”.. هكذا قال د. مشالي، مضيفاً أنه “متدين جداً” ويبتغي وجه الله في عمله، ولديه حكمتان تقودان رسالته؛ هما “القناعة كنز لا يفنى”، و”ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”، مؤكداً أن البُعد الديني حافزه في العمل.
وأضاف أنه دائماً يحدث الله عز وجل قائلاً برسالة واحدة، هي: “أشكرك يا رب، أشكرك يا رب، أشكرك يا رب.. لقد أعطيتني في الدنيا فوق ما أتمنى وأكثر مما أستحق”.
“الجوع صعب”.. هكذا يعتقد د. مشالي وهو يسرد لنا حكاية يعتبرها من أصعب المواقف التي تعرض لها في مسيرة حياته، حيث سمع به أب فقير، وحضر له بعد جولة كبيرة على كبار الأطباء دون جدوى حيث ساءت حالة طفله، وأقسم بالله له إن طفله إذا لم يخف فسيضربه بالرصاص! كما يحكي د. مشالي، مضيفاً: “قدرت ظروفه والحمد لله كان شفاؤه على يدي؛ فالشفاء من الله دوماً ولكن كنت سبباً وفرحت لذلك وقدرت غضب الأب كأني لم أسمع شيئاً، وعملت ما يرضي الله، وكانت النتيجة أن هيّأني الله لعلاج هذا الطفل بفضله تعالى”.
أسرة هذا الطبيب جزء من أسباب تيسير طاقته واستمرار رسالته في الطب، بحسب ما أكد، مضيفاً أن زوجته –ما زالت موجودة بجواره- تتعاطف معه وتقدر ظروف المرضى الفقراء، وعندما تسمع معلومات عن دور العيادة تكون سعيدة، أما أبناؤه فقد شقوا طريقهم بنجاح وتفوق، وأصبحوا من الأثرياء، وتركوه عن قناعة ليكمل رسالته رغم رغبتهم في راحته وعيشه ما تبقى من عمره في رغد العيش.
ويفسر د. مشالي كيفية تناغم أسرته معه بهذا الشكل قائلاً: “عوّدتهم أني لست “ماكينة بنك” للبيت أو ثوراً في ساقية، أنا ربيتهم على الاجتهاد وتحمل المسؤولية منذ زمن”.
هذه نصيحتي
د. مشالي من أنصار العدالة الاجتماعية؛ حيث يرى أن غيابها الآن في مصر أحد أبرز المشكلات، ويقول موضحاً ذلك بلغته العامية المصرية: «الغلابة يزدادون، وعددهم ارتفع عن زمان، والمشكلة أن الفقر ضرب بأطنابه في المجتمع، والناس جابت آخرها، ولا بد من التعاطف معهم»، مضيفاً أن كتاب «المعذبون في الأرض» لوزير الثقافة المصري الراحل د. طه حسين يجسد ما يعانيه الفقراء الآن؛ فهم «الذين لا يجدون ما ينفقون، ويعيشون بجانب الذين يجدون ما لا ينفقون».
وأكد د. مشالي في ختام حواره أن الحاجة إلى العدالة الاجتماعية الآن كبيرة حتى يشعر الغني بالفقير، وأمسك بالقلم شاكراً “المجتمع”، وكتب عبرها نصيحته الأخيرة قائلاً: “إلى “المجتمع”، أوصي الأغنياء خيراً بالفقراء.. وألف شكر”.