كانت تتهرَّب من صديقتها وتتعلل بكثرة مشاغلها وضيق وقتها كلما طلبت منها مشاركتها الرأي والنصح في مشكلة أرّقتها، أو أزمة طالتها، أو قضاء حاجة لها لظروف خاصة، فالاعتذار هو دأبها، والانشغال هو عذرها، وما علمت أنها بذلك قد بخلت على نفسها بخير كبير؛ إذ فاتها الأجر العظيم المترتب على قضاء حوائج العباد.
لقد قسم الله تعالى على عباده أرزاقهم من كل شيء، وجعل العبد مستخلفاً فيما أعطاه ربه، واختبره لينظر كيف يعمل، وكيف يستقبل نِعَم الله عليه ويتصرف فيها، ولا شك أن المال من هذه النعم العظيمة التي تقوم بها حياة الناس في معايشهم، وجعله الله عز وجل محبباً للنفوس لتسعى في تحصيله وتدور عجلة الحياة وتسير، وكما أن هناك مَن يضعف أمام حب المال فيبخل به في إنفاقه، وعلى بذله والتصدق منه على المحتاجين، فإن هناك أيضاً من يبخل بالنفقة مما أعطاه الله عز وجل من نِعَمٍ أخرى لا تقل قيمة عن نعمة المال، بل قد تفوق عليه وتعظم عنه في الأثر الطيب الذي تتركه، ومن هنا يتضح أن البخل لا يقتصر على البخل بالمال، بل يتعداه إلى غيره ليكون له صور وأشكال ينبغي على المسلم أن يجتنبها ويتخلص منها إذا أصيب بها كلها أو ابتلي ببعضها.
دائرة الإنفاق واسعة:
علمنا النبي صلى الله عيه وسلم الجود والكرم والعطاء والبذل من كل خير نملكه، ووسع دائرة الإنفاق والصدقات ورغب فيها، فقال: «تبسُّمُكَ في وجْهِ أخيكَ لَكَ صدقةٌ، وأمرُكَ بالمعروفِ ونَهيُكَ عنِ المنْكرِ صدقةٌ، وإرشادُكَ الرَّجلَ في أرضِ الضَّلالِ لَكَ صدقةٌ، وبصرُكَ للرَّجلِ الرَّديءِ البصرِ لَكَ صدقةٌ، وإماطتُكَ الحجرَ والشَّوْكَ والعظمَ عنِ الطَّريقِ لَكَ صدقةٌ، وإفراغُكَ من دلوِكَ في دلوِ أخيكَ لَكَ صدقةٌ» (رواه الترمذي)، فكل هذه الأعمال جعلها بمثابة النفقة والعطاء، ويُفهم من الحديث أن من البخل عدم القيام بها عند المقدرة على فعلها.
والبخل قد يكون بالقول وقد يكون بالفعل، أو بهما معاً، وبه يحصل التقصير في حق النفس وحق من نبخل عليه، ومن أمثلة ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «البخيلُ الَّذي مَن ذُكِرتُ عندَهُ فلم يصلِّ عليَّ» (رواه الترمذي)، فهذا البخيل بخل على نفسه بالأجر العظيم والأثر الطيب المترتب على صلاته هذه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «صلُّوا عليَّ؛ فإنَّ صلاتَكُم عليَّ زَكاةٌ لَكُم، وسلوا اللَّهَ ليَ الوسيلةَ» (رواه الترمذي)، وقال: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى اللَّهُ عليهِ عشرَ صلواتٍ، وحُطَّت عنهُ عَشرُ خطيئاتٍ، ورُفِعَت لَهُ عشرُ درجاتٍ» (صحيح النسائي)، فكم يبخل المسلم على نفسه إذا تركها!
من أشكال البخل:
– البخل بإلقاء السلام:
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أبخلَ الناسِ مَن بخلَ بالسلامِ» (صحيح الجامع)، فهذا بُخل بقولٍ سهل لا يكلف شيئاً، لكنه كبير الأثر في نشر الحب والتآلف بين الناس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أوَلا أدُلُّكُمْ علَى شيءٍ إذا فَعَلْتُمُوهُ تَحابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بيْنَكُمْ» (رواه مسلم).
– البخل بالبشاشة وبالكلمة الطيبة:
وهذا لا يكلف شيئاً ولا مشقة فيه، بل إن له موقعاً حسناً فيمن حولنا حين نتلطف معهم، قال الله تعالى: (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً) (البقرة: 83)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ» (رواه البخاري)، وقال: «لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعروفِ شيئاً، ولو أنْ تَلْقَى أخاكَ بوَجْهٍ طَلْقٍ» (رواه مسلم)، فكم مِن كلمة طيبة أو بسمة صادقة أدخلت السرور على حزين فأذهبت حزنه! وكم من كلمة طيبة أزالت الضغائن وأصلحت بين الناس، بل إنها قد تكون أفضل من نفقة المال التي يشوبها الرياء أو المنّ، وقد قال الله تعالى: (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى) (البقرة: 263)، ويكون البخل بذلك أشد إذا كان مع الوالدين والأهل والأرحام، فهم أحق الناس بكل خلق طيب.
– البخل بالعلم والدلالة على الخير:
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: العلم خير من المال؛ العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم يزكو على الإنفاق، والمال تنقصه الصدقة (في الظاهر)، ومنفعة المال تزول بزواله.
وإذا كان بذل المال نافعاً للمنفق والآخذ، فإن تعليم العلم والدلالة على الخير قد يفوق في نفعه بذل المال، وقد يحتاج أحياناً إلى إنفاق بعض المال في سبيل تحقيقه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً» (رواه البخاري)، وقال: «مَن دَعا إلى هُدى، كانَ له مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن أُجُورِهِمْ شيئاً» (رواه مسلم)، وقال: «كلُّ معروفٍ صدقةٌ، والدالُّ على الخيرِ كفاعلِه» (صحيح الجامع).
– البخل بالشفاعة وبالجاه:
وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء حوائج الناس فقال: «مِنْ أفضلِ العملِ إدخالُ السرورِ على المؤمنِ، تَقْضِي عنه ديناً، تَقْضي له حاجةً، تُنَفِّسُ له كربةً» (رواه البيهقي)، وقال: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا» (رواه البخاري)، وجاء في شرح الحديث أن المرادُ بالشَّفاعةِ هنا: «هي التي تَكونُ في أمورِ الدُّنيا، فيَسعى المسلِمُ لأخيه المسلِمِ في حاجتِه وطلَبِها له، والتَّوسُّطِ فيها طالَما فيها خيرٌ يُعينُه على دِينِه ودُنياه، ما لم تكُنْ تلك الحاجةُ مَعصيةً» (انظر: الدرر السنية)، ويتأكد ذلك لمن كان له من الجاه والمكانة ما يجعل كلمته مسموعة مصانة مؤثرة.
– بخل الزوجين بإظهار المودة والرحمة:
والبخل بالكلمات الرقيقة التي تولد المحبة بينهما وتنميها وتقويها وتؤدي إلى استقرارها وسعادتها.
– البخل بالثناء والدعاء والاعتراف بالفضل:
بين الزوج وزوجه، وبين الأخ وأخيه، وبين الولد ووالديه، وبين الوالدين والأولاد، وبين المعلم وطلابه، والطلاب ومعلميهم، ومع كل من قدم لأحد خيراً ومعروفاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يشْكُرِ الناسَ لم يشْكُرِ اللهَ» (رواه الترمذي)، وقال: «ومن صنعَ إليكم معروفاً فكافئُوهُ فإن لم تجدوا ما تُكافئونهُ فادعوا له حتى ترَوا أنكم قد كافأْتموهُ» (رواه أبو داود).
– البخل على النفس ببعض الوقت:
للتفكر والتدبر والتوبة والإنابة، والبخل بتزكيتها وإصلاحها وتربيتها، والبخل عليها بحضور دروس العلم التي تحييها، وبنوافل العبادات التي تزكيها، وبتلاوة القرآن التي تهديها، وبكثرة الذكر الذي يرويها، وهذا بخل لا يليق بحال المؤمن.
– البخل بدعاء المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب:
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن دَعَا لأَخِيهِ بظَهْرِ الغَيْبِ، قالَ المَلَكُ المُوَكَّلُ بهِ: آمِينَ، وَلَكَ بمِثْلٍ» (رواه مسلم)، فهي دعوة مشتركة بين الداعي والمدعو له، وهي من الدعوات المستجابة.
ألا فلنجتنب البخل بكافة أنواعه، ولننفق من كل خير أعطانا الله، فإن البخل ليس بالمال وحده، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم لن تَسَعوا الناسَ بأموالِكم، ولكن يَسَعهم منكم بَسْطُ الوجهِ، وحُسْنُ الخُلُقِ» (صحيح الترغيب).