من الشبه التي أثارها المستشرقون وأذيالهم في الشرق الإسلامي حول المرأة المسلمة، تشريع الإسلام للطلاق وجعله حقاً خالصاً للزوج، وفي هذا –كما يدَّعون- ظلم بيِّن للمرأة، وجعلها تحت رحمة الرجل، ويمكننا حصر ما أثاره هؤلاء حول هذه الشبهة في النقاط التالية:
1- يجب أن تكون الحياة الزوجية قائمة بين الزوجين لا يُفرِّق بينهما إلا الموت، وينبغي أصلاً ألا يوجد طلاق كما هو الحال في الأديان الأخرى.
2- وإذا كان الطلاق لا بد منه فيجب مساواة المرأة بالرجل فيه توقعه متى شاءت، كما يوقعه هو متى شاء.
3- يجب ألا يتم الطلاق إلا بحكم قضائي؛ حتى نستطيع تقييد الطلاق وعدم التوسع فيه(1).
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
استقرار الحياة الزوجية من أعظم غايات الإسلام
أولاً: يجب أن نقرر أن استقرار الحياة الزوجية من أعظم الغايات التي يحرص عليها الإسلام، ومن ثم فإن عقد الزواج عقد متين وميثاق غليظ ربط الله به بين الزوجين، قال تعالى: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) (النساء: 21)، وقد جعل الله تعالى الزواج آية من آياته فقال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21).
وقد وصف القرآن الكريم العلاقة بين الزوجين باللباس الذي يباشر جلد الإنسان فقال تعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) (البقرة: 187)، وفي هذه العبارة ما فيها من الإيحاء بمعاني الستر والوقاية والزينة والدفء يحققها كل منهما لصاحبه”(2).
ولقد دعا الإسلام كلاً من الزوجين إلى أن يشعر بمسئوليته تجاه الآخر أمام الله تعالى، فهو المطلع على حسن سلوكه أو انحرافه وقد جعل كلا منهما راعياً ومسئولاً، فقال صلى الله عليه وسلم: “كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ فالأميرُ الذي على الناسِ راعٍ عليهم وهو مسؤولٌ عنهم والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتِهِ وهو مسؤولٌ عنهم والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بعلها وولدِهِ وهي مسؤولةٌ عنهم وعبدُ الرجلِ راعٍ على بيتِ سيدِهِ وهو مسؤولٌ عنهُ ألا فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ”(3).
وقد بَغَّض الإسلام الناس في الطلاق، وحث المسلمين على اتقائه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: “أبغض الحلال إلى الله الطلاق”(4).
ويأمر الإسلام الزوجين عندما يحدث بينهما شقاق أو نفور أن يعملا على إزالته بإثارة دواعي الرحمة والوئام وفى هذا قال الله تعالى: (وَإِنْ امْرَأَةٍ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوراً أَوْ إِعْرَاضِاً فَلَا جَنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) (النساء: 128)، وقد أوجب الإسلام على الزوجين إذا لم يستطيعا أن يصلحا ما بينهما أن يعرضا أمرهما على مجلس عائلي يختار الزوج من أهله واحداً يمثله، وتختار الزوجة من أهلها واحداً يمثلها، ويجتمعان كمحكمة عائلية ينظران في أسباب الخلاف وعوامله ويحاولان إصلاح الأمور بينهما بما يستطيعان، ولا ريب في أن كلاً من الزوج والزوجة إذا كانا راغبين في إنهاء ما بينهما من خلاف فإن الحكمين سينجحان في مهمتهما، قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) (النساء:35)، فإذا استحكم النفور بين الزوجين، ولم تنجح كل وسائل الإصلاح ومحاولات المصلحين في التوفيق بينهما، فإن الطلاق هو الدواء المر الذى لا دواء غيره، ولهذا قيل: “إن لم يكن وفاق ففراق”، وقال تعالى: (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا) (النساء: 130).
وما شرعه الإسلام هنا هو الذي يفرضه العقل والحكمة والمصلحة فإن أبعد الأمور عن المنطق والفطرة، أن تفرض شركة مؤبدة على شركين لا يرتاح أحدهما للآخر ولا يثق به، وهكذا يتبين أن الإسلام لم يغمض عينيه عن طبائع الناس وتجارب الأمم(5).
يعتري النساء انفعالات عاطفية غاضبة قد تفقدها صوابها
ثانياً: أما ما يطالب به أدعياء الدفاع عن حقوق المرأة من جعل المرأة كالرجل في إيقاع الطلاق عليه متى شاءت تحقيقاً للمساواة بينهما ما هو إلا ضرب من التفكير العقيم، وحين يصبح الأمر كما يدَّعون تتعرض العلاقات الزوجية -فعلاً- للخراب والدمار، فقد عُرِف أن النساء مهما أُوتِيَّ بعضهن من الفضل والنباهة تعتريهن أحياناً كثيرة انفعالات عاطفية غاضبة تفقدها صوابها ويتوارى عقلها، ولا يؤمن عليها في هذه الحالات أن يصدر عنها قرار أهوج تدمر فيه كل شيء.
إنهن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، ويَكْفُرْنَ الإحْسَانَ، لو أحْسَنْتَ إلى إحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شيئًا، قالَتْ: ما رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ”(6)، وهذا الكفران وليد الانفعال العاطفي لا محالة، فلو كان الأمر كما يدَّعون فقد يفاجأ الزوج وقد خرج من منزله وهو لها زوج –أنه– عند عودته ليس لها زوج، لأنها قد طلقت نفسها منه، أليس ذلك من حقها كما يتصور قصيرو النظر من دعاة تحريرها(7)؟
ثم إن هذه المؤسسة –الأسرة– الرجل المسؤول الأول عنها، وهو الذي سعى في إنشائها، واختار حواءها من بين آلاف الحواءات، وأنفق على تأسيسها من جهده وماله ما لم ينفق على سواها، وأمضى شطراً من عمره يحميها ويرعاها، ومن كان كذلك كان عزيزاً عليه أن يحطم بناء الأسرة، بل يعمل ألف حساب وحساب إذا حدثته نفسه بالإقدام على الطلاق(8).
وإذا ساءت العشرة بين الزوجين، وكانت الكراهية من جهة المرأة، فقد أباح لها الإسلام أن تتخلص من الزوجية بطريق الخلع بأن تعطى الزوج ما كانت أحذت منه باسم الزوجية لينهي علاقته بها، وفى ذلك قال الله تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة: 229).
وإذا تعرضت المرأة للضرر أو امتنع الزوج عن الإنفاق عليها فلها أن تطلب من القاضي تطليقها، فيطلقها عليه جبراً ليرفع الظلم والضرر عنها، بل لقد ذهب بعض الأئمة إلى جواز التفريق بين المرأة وزوجها المعسر، لأن الشرع لم يكلفها الصبر على الجوع مع زوجها ما لم تقبل هي ذلك من باب الوفاء ومكارم الأخلاق قال تعالى: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا) (البقرة: 231).
الطلاق عن طريق المحكمة وتقييده بيد القاضي جهل مركب
ثالثاً: أما عن الصورة التي يتخيلها أدعياء نصرة المرأة من جعل الطلاق عن طريق المحكمة وتقييده بيد القاضي كما هو الحال عند الغربيين، فهو جهل مركب، حيث ثبتت أضراره من جهة، وعدم جدواه من جهة أخرى.
أما أضراره فلِما يقتضيه من فضح الأسرار الزوجية أمام المحكمة والمحامين عن الطرفين، وقد تكون هذه الأسرار مخزية، من الخير لأصحابها سترها، ولنتصور أن رجلاً اشتبه في سلوك زوجته وتقدم إلى المحكمة طالباً طلاقها لهذا السبب، كم تكون الفضائح في هذا الموضوع؟، وكم يكون مدى انتشارها بين الأقرباء، والأصدقاء والجيران، وبعض الصحف التي تتخذ من مثل هذه القضايا مادة للربح(9)؟
وأما عدم جدواه: فإن المتتبع لحوادث الطلاق في محاكم الغرب يتأكد أن تدخل المحكمة شكلي في الموضوع، فقل أن تقدمت امرأة أو رجل بطلب الطلاق إلى المحكمة ثم رُفض، وإن كثيراً من ممثلات السينما يُعلنَّ عن رغبتهن في الطلاق من أزواجهن والزواج بآخرين قبل أن يتقدمن إلى المحاكم بهذا الطلب، ثم ما تلبث المحاكم أن تجيبهن إلى طلبهن، وأبشع من ذلك أن المحاكم في بعض البلاد الغربية لا تحكم بالطلاق إلا إذا ثبت زنى الزوج أو الزوجة، وكثيراً ما يتواطآن فيما بينهما على الرمي بهذه التهمة ليفترقا، وقد يلفقان شهادات ووقائع مفتعلة لإثبات الزنى حتى تحكم المحكمة.. فأي الحالتين خير مقاماً وأليق كرامة أن يتم الطلاق بدون فضائح، أم ألا يتم إلا بعد الفضائح(10)؟
هكذا يتبين لنا بكل وضوح حقيقة المنحى السليم الذي قررته الشريعة الإسلامية بشأن قضية الطلاق، كما يتبين أن ما يرجف به أعداء الإسلام، ومن دار في فلكهم من أدعياء نصرة المرأة واتهامهم لشريعة الإسلام بأنها ظلمت المرأة مجرد أوهام ساقطة لم تقم على بينة، ولم يدعمها حجة(11).
___________________________
(1) بتصرف من كتاب “ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده” – المؤلف: د. يوسف القرضاوي – 1/342.
(2) فتاوى معاصرة د. يوسف القرضاوي – 2/ 361.
(3) أخرجه البخاري (2554)، ومسلم (1829)، وأبو داود (2928)، والترمذي (1705)، والنسائي في (السنن الكبرى) (9173)، وأحمد (5167).
(4) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الطلاق باب كراهية الطلاق ج2 ص 255 ح (2178)، وأخرجه ابن ماجة في سننه كتاب الطلاق 1/650، ح (2018).
(5) بتصرف من كتاب “ملامح المجتمع المسلم” – د. يوسف القرضاوي – 1/343،342.
(6) أخرجه البخاري (29)، ومسلم (907)
(7) بتصرف من كتاب “المرأة في عصر الرسالة” – المؤلف: د. عبد العظيم المطعني – 1/184.
(8) انظر: ملامح المجتمع الإسلامي الذي ننشده – د. يوسف القرضاوي – 1/347، والمرأة في عصر الرسالة – د. عبد العظيم المطعين – 1/185.
(9) بتصرف من كتاب “المرأة بين الفقه والقانون” – المؤلف: د. مصطفى السباعي – 1/128.
(10) المرأة بين الفقه والقانون – المؤلف: د. مصطفى السباعي – 1/129.
(11) انظر: “شبهات حول قضايا المرأة المسلمة والرد عليها – المؤلف: د. عبد الحميد عيد عوض – 1/60.