هل تتقبل أن تصف دواءً لمريض بعدما قمت بتشخيص حالته وأنت لم تدرس الطب أبدًا في حياتك؟ وهل سيصدقك المريض ويثق في قولك؟ بالطبع لا، لأنه لا يُتصور أن يقبل أحدٌ بتوظيف شخصٍ دون مؤهلات وشهادات تثبت أهليته في هذا التخصص، ورغم أن علاج الأبدان له وصفات مجربة، فإنه لن يقبل الناس العلاج إلا من طبيب مختص خاصة في الحالات الحرجة، وكذلك الحال في علاج النفوس، فلن يذهب أحد للطبيب النفسي إلا بعد الاطمئنان على براعة الطبيب النفسي.
ورغم أن هناك عملًا معنيًا بعلاج النفوس والأبدان وصلاح القلوب وبناء العقول -في آن واحد- فإنه يُقبل أن يزاوله أيًا من كان دون النظر إلى ما إذا كان مؤهلاً لذلك أم لا، ويتهاون الناس في تلقي التجارب وتطبيقها دون النظر إلى مدى مناسبتها للحالة التي بين أيديهم أم لا! ربما تتساءل: من هو المختص المعني بعلاج النفوس والعقول والقلوب والأبدان معًا، ألا هو التربية، وكم هو عملٌ عظيم يُغفل عن أهميته، فلا يستعد له أحدٌ -في الأغلب- بنصف ما يستعد له للزواج من اختيار المنزل وأثاثه!
مفهوم التربية
جاء في كتاب «منهج التربوية النبوية» للسويد أن «التربية هي عملية بناء للطفل شيئاً فشيئاً حتى يصل إلى حد التمام والكمال في جميع جوانبه».
وقد جمع المعنى بكلمة «بناء»؛ لأنها تعني بذل الجهد، ووضع الشيء في مكانه، ومتابعة النظر إليه، بالرعاية والإصلاح بعيداً عن الإهمال.
وشيئاً فشيئاً: يعني على سبيل التدرج، وأن ما يصعب تحقيقه اليوم، يمكن أن يتحقق في غد.
وإلى حد التمام والكمال: هو الحد الذي يصل فيه الطفل إلى التمسك بشرع الله تعالى من ذاته، ومحاسبة نفسه بنفسه، ويراقبها ويتابع تربية نفسه بتلاوة القرآن والتمسك بالشرع الحنيف.
جميع جوانبه: تشمل الجانب البدني والصحي، والجانب النفسي والعاطفي، والجانب العقدي والعبادي، والجانب الاجتماعي، والجانب العلمي والفكري، والجانب الأخلاقي.
إذاً، عندما يقوم الأب بدوره في التربية، يتخصص في بناء ومعالجة عدة جوانب لكي يُنشئ طفلًا سويًا متوازنًا في جميع جوانبه، وهذا أشد ما يميز التربية الإسلامية؛ وهو شموليتها لكل جوانب الإنسان، وقد صدق الحق عز وجل حين قال: (وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (فاطر: 14).
لذلك، حينما ترغب في الحصول على مورد صاف لتربية طفلك فلا تستقِه إلا من عند الخالق الخبير بخلقه وما ينفعه وما يصلحه؛ (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك: 14).
وفي تلك الأيام، ما أن يُرزق الوالدان بمولود، حتى تجد النصائح التربوية والتجارب تُلقى على مسامعهما ليلاً ونهارًا، مما يثقل كاهلهما بسبب كثرة المدارس التربوية واختلافها، حتى يصل الأمر في بعض الأحيان إلى حد التناقض، وهنا يأتي الإسلام ليرسم لك طريقًا واضحًا للتربية يُخبرك الإسلام بالغاية من التربية والشخص المسؤول عنها، ووسائل القيام بها، وكل ذلك ليحفِّز الوالدين على أداء مهمتهما العظيمة مع أبنائهما.
من الطرق التي حثَّ بها الإسلام على تربية الأبناء:
1- بيان الغاية من التربية:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم: 6)، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: علِّموهم، وأدِّبوهم.
فرغب الآباء في القيام بدورهم في تربية أنفسهم وأبنائهم وأزواجهم بجعل مدار فلاحهم في الدنيا والآخرة منوطاً بالقيام بذلك الدور.
2- بيان أن المسؤولية التربوية تقع على الأبوين:
«كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه»، فجعل دور الأبوين -معاً- المسؤول عن حفظ فطرة الأبناء أو فسادها، وفي ذلك يقول الغزالي: «الصبيُ أمانةٌ عند والدَيهِ، وقلبُهُ الطاهِرُ جوهرةٌ خاليةٌ من كل نَقشٍ وصُورة، وهو قابِلٌ لكلِ نَقشٍ، ومائِلٌ إلى كل ما يُمالُ به إليه، فإن عُوِّدَ الخيرَ وعُلِّمَهُ نَشَأَ عليه، فَسَعِدَ في الدنيا والآخرِةِ أبواه وكُلُ مُعَلِمٍ لَهُ ومُؤَدِّبٍ، وإن عُوِّدَ الشَرَّ وأُهمِلَ إهمالَ البهائِمِ شَقِيَ وهَلَكَ، وكان الوِزرُ في رقبةِ القَيِّمِ عليهِ والوالِي لَه».
3- استحضار السؤال أمام الله تعالى:
«الرجل راعٍ على أهل بيته، وهو مسؤول عنهم»؛ فبين الحديث أن السؤال أمام الله حافزٌ للزوج وللزوجة في بذل وسعهما وما يستطيعان للنجاة من السؤال أمام الله سبحانه عما فعلاه في أبنائهما.
4- ذكر سير الصالحين في تربية أبنائهم:
فتجد القرآن به سورة «لقمان» التي سُميت على اسم صالح لم يُذكر من عمله إلا تربية ابنه وبذله في ذلك، ولم تذكر السورة النتيجة في إشارة إلى أنه ليس للآباء إلا السعي وترك النتيجة في قدر الله تعالى.
وتجد في القرآن نماذج أخرى لامرأة صالحة لم يُذكر من عملها إلا دعوة دعتها لجنينها ليتقبل دعوتها ويجعل حفيدها آية للعالمين وتُخلد لحظة دعوتها تلك في إشارة إلى ألا يُحقر الآباء من البذل وسعيهم شيئًا، وإن كانت دعوة خافتة في جوف الليل، فالله لا يضيع أجرهم، وأيضًا قصة سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل، وقصة سيدنا يعقوب وابنه يوسف، وتناصح الآباء للأبناء وقت الموت، وفعل سيدنا نوح مع ابنه رغبة في هدايته، فهم يعلمون دورهم كآباء لا يتوقف إلا لحظة مفارقة الحياة وحتى عند ذلك لا يتوقف الأثر كما سنرى في النقطة القادمة.
5- ما تزرعه بابنك عمل لا ينقطع:
قال رسول الله ﷺ: «إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، فرغَّب الوالدين في تربية أبناء صالحين بأنه لا ينقطع حسنات المرء بدعوة ولده الصالح وما يجازيه الله تعالى من حسنات جزاء ما علمه لولده، فإن كل عمل صالح لقنه لولده وكل طاعة غرسها فيه هي أيضاً علم ينتفع به، وتخيل حينما يعلم ابنك ابنه ثم ابنه.. وهكذا، فكل تلك الحسنات تعود إليك، فأي خير بعد هذا؟
وبعدما حث الإسلام الآباء وشحذ هممهم في تربية أبنائهم، فإنه أهداهم أدوات للتربية توصلهم لتلك الغاية بإذن الله ورحمته.