أعظم ميراث النبوة هو العلم بالله تعالى وكلامه وشرعه، ومن القضايا التربوية التي تشغل بيوت المسلمين اليوم تربية النشء على كلام الله كأنه عليهم أنزل، ومع صحّة هذا المقصد إلا أنه حمل في طياته الخلاف الذائع بين أولوية حفظ اللفظ وفهم المعنى، بل واتخاذ سيدنا خالد بن الوليد قدوة في أن الحفظ ليس ضروريًّا ولا بأس بفواته، إذ زعموا أنه توفّي ولم يكن يحفظ سوى 3 سور، ومنهم من حصرها في سورة «الإخلاص» وحدها! فما القول الفصل في المسألة؟
بداية، هذا النوع من الاستشهاد مجانب للصواب من عدة نواح:
1- لم يرد أثر عن خالد بن الوليد ولا في تراجمه الثقات يفيد حصر عدد للسور التي حفظها، وإنما ورد في الأثر الصحيح كما خرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة، وأبو عبيد في فضائل القرآن: «لَقَدْ مَنَعَنِي كَثِيرًا مِنَ الْقِرَاءَةِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
2- وأما الأثر الذي نصه: «شَغَلَنَا الْجِهَادُ عَن تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ» فليس فيه ما يفيد هجره للقرآن سواء بالتلاوة أم بالحفظ، وإنما أنه لم يكن متفرّغًا لذلك كغيره من حفّاظ الصحابة.
3- ثم إن أَسَف سيدنا خالد أنه مُنِع كثيراً من القراءة يفيد أن الكثير كان هو الأصل، وأن السياق ليس سياق تبرير لقلة الاتصال بالقرآن؛ حفظًا أم تلاوة، وشتان بين سياق تقرير اشتغال بأولوية وسياق تبرير انشغال عن أولوية! فإذا كان خالد شغل بالجهاد في سبيل الله فليت شعري ما الذي يشغلنا نحن لنقارن؟!
4- وعلى ذلك لم يمنع أن يكون منهم حفاظ، كعبدالله بن مسعود، وأبي بن كعب وغيرهما، ولولا فضل الله عليهم بحفظه ما أمكن جمع القرآن على النحو الذي تم، فهل تمّ لنا اتباع الصحابة في كل ما فعلوه حتى نقتفي أثرهم كذلك فيما لم يفعلوا؟
5- كذلك خالد وجيله من الصحابة دخلوا الإسلام على كِبَر، ولم ينشؤوا فيه أطفالاً، لكن المتأمل في الرعيل التالي مباشرة من أبناء الصحابة الذي نشؤوا في الإسلام، يجد غالبهم كان من حفظة قرآن، أو حملة القرآن، مثل عبدالله بن عباس، وأبي طلحة الأنصاري.
فإذا جئنا لمنهجية تربية النشء الصحيحة على تلقي كلام الله تعالى، نجد أن النموذج الذي وصل لدرجة أن يقرأ القرآن كأنه عليه أنزل ليس ممتنعًا، وذلك النموذج ليس جيل الصحابة! فأولئك كان القرآن يتنزل عليهم مفرّقًا، فأمكنهم بطبيعة الحال أن يتحركوا به بتدرّج.
أما نحن اليوم فالقرآن كامل بين أيدينا، لا يسعنا تفريقه على نفس النهج والمدى الزمني، وإنما ننظر إلى الأجيال تالية من التابعين وتابعي التابعين الذين كان نزول القرآن بالنسبة لهم سابقًا للحركة به كما الحال معنا، وإن اختلفت كثير من ظروفهم عن ظروفنا، لغلبة المادية وعلائق الدنيا على قلوبنا في المقام الأول، ثم ضعف طلبنا للعلم الراسخ بالدين والاكتفاء بتوارث الفهم السطحي وصور التدين عن الآباء والأعراف.
وعلى ذلك، تأمل تراجم العلماء والجهابذة في كل العلوم تجد الأصل أنهم بدؤوا صغاراً، وبدؤوا أول ما بدؤوا بالقرآن؛ حفظاً ثم فهماً ثم تعمقاً وفقهاً، ومن بدأ على كِبر وفتح الله تعالى عليه فهو استثناء محمود، لكن ليس كل أحد يبلغه بنفس يسر التدرج مع المراحل الفطرية، والقصد أن منهجية الغرس التربوي لأية عقيدة في النفس ثابتة في جوهرها، لأن النفس الإنسانية ومراحل ترقيها في المدارك هي واحدة منذ بدء الخليقة.
فالطفل في سنوات عمره الأولى حتى الخامسة تقريبًا تكوينه الإدراكي يعتمد في المقام الأول على التشرب والتلقي والمحاكاة، وقدر من الفهم نعم، لكنه فهم موافق لمدارك الطفولة وبداية استشعارها للمعاني، لا على ما نتصوّره نحن بعقلياتنا البالغة، فبدلًا من محاولة عناد هذه الطبيعة والإصرار على إفهامه ما لن يَعقِله حقيقة، يتم التركيز في هذه المرحلة على تلقيه للفظ القرآن ونصه، بالحفظ المنضبط تجويدًا وترتيلًا، وما يحفظه في هذه السن يرسخ رسوخ الجبال بالضرورة، ويمكن البناء السوي عليه من بعد.
فإذا اتسعت مداركه بما يكفي، صارت التربة ممهدة البذور، وهنا يبدأ التفهيم الأول لغريب الألفاظ ومعاني المفردات، مع الربط المبسط بشؤون الحياة المختلفة، ثم حين يشتد عود النبتة تكون فترة الإيراق بتعميق فهمه للكلام ومطالعة تفسير أولي والإكثار من الربط بالحياة والتحاكم إليه في مختلف الشؤون، وهكذا كلما نضج في المدارك تعمق في الفهم، بكل سلاسة ومنهجية.
والميزة العظمى لهذا التحفيظ التربوي أنه ينمي لدى الطفل مدارك تلقائية وملكات فطرية، يستعصي على الوالدين إكسابها له حين ينضج بالفعل ويتشكل طبعه لاحقًا، لعل أهمها أن تكون اللغة عنده لسانًا طبيعيًّا وتصير أذنه قياسية، وهذه الطريقة الأساس في التنشئة على الفصحى، ثم القواعد هي صياغة لاحقة لممارسات فعلية، لذلك حين يدرس النحو لا يجده إلا تطبيقاً سلساً لما يمارسه هو تلقائيًّا، بعكس منهجية قسر القواعد على ألسنة معوجة فلا ينضبط اللسان وتظل القواعد منفصمة عن التطبيق.
وخلاف اللغة، تنشأ لدى الطفل طلاقة الأسلوب وقدرة التعبير كلما ترقى في تعلم بلاغات القرآن والحديث، وكذلك يرسخ تكوينه الفكري وتنطلق طاقات الخيال والإبداع بما يتربى على التدبر والتفكر والربط بين الأمور، هذه كلها ملكات لا تكتسب بالتلقين وإنما بالتربي عليها والنشأة في أحضانها.
بهذا يتضح أن الإشكال ليس في مبدأ الحفظ، بل الحفظ هو المفتاح الأول للتلقي الصحيح لكلام رب العالمين، فكيف يصير العقبة دونها؟! إنما الشأن كل الشأن في منهجية الحفظ التي تقف عند مرحلة الطفولة الأولى، فيظل المسلم في فهمه وتعامله مع القرآن طفلًا مهما شبّ! فإذا لم يحفظ الطفل المتن في سنوات الحفظ، جاءت سنوات التربي والفهم على جوف خاوٍ، وكيف تنبت نبتة في أرض ليس فيها بذورها؟! ولم تنشأ إشكالية الحفظ والتدبر إلا بسبب التذبذب في الغرس التربوي للقرآن بما يتوافق مع المرحلة العمرية، أما من منَّ الله عليه بهذه المنهجية ينتفي لديه هذا الإشكال، ويكون أسعد الخلق حظا بما يحمل كلام الله في صدره ويفهمه في قلبه فيصدر عنه تلقائياً في أفعاله ويستحضره ليتحاكم إليه في كل شؤونه.
وتوهُّمُ إمكانية فهم القرآن على وجهه بغير حفظ لفظه ينتج عنه ما يقع فيه كثير من الوعاظ والخطباء من نقل كلام الله ورسوله بالمعنى بلغة ركيكة، ومهما نُقِل المعنى صحيحًا فهو لا يضاهي ذكر المبنى والصيغة الأصلية كما وردت، خاصة ونحن نتكلم عن صياغة ربانية، فتأمل! ومما يؤسُف له أن ساداتنا من العلماء والسلف الصالح قد أفنوا أعمارهم في حفظ كلام الله والعناية به؛ شرحًا وبيانًا وتفسيرًا، وتتبع سند كلام رسوله وتحقيقه وتوثيقه، ثم نتهاون بهذا الإرث العظيم ويكون حظنا منه أن ننقله بالمعنى دون المتن، وحتى المعنى يكون في الغالب مستقى بالتوارث أو بالظن العام، فلا تعبدنا لله تعالى بنص الكلام ولا حتى بمعناه!