في صيف عام 2000م، مكثت بإحدى الدول العربية ثلاثة أشهر، وأول ما استوقفني في المدينة التي نزلت بها اختفاء الناس من الشارع وقت إذاعة مسلسل «الزير سالم»، فقلت في نفسي: لعله مسلسل متقن مثير، وإلا.. لماذا أجمع كثير من الناس عليه؟
ولما شرعت في مشاهدته وجدت دراما راقية، ولغة عربية فصحى تشنف الآذان، وشعراً رقيقاً مصحوباً بموسيقى تصويرية في الخلفية تدفع الأعجمي دفعاً فضلاً عن العربي لتذوق حلاوة العربية، وبالبحث عن فريق العمل وجدت أن مخرج هذا العمل شاب سوري طموح يدعى حاتم علي، هالني بعبقريته الفياضة، وذكائه المتقد!
بعد هذا العام بعامين تقريباً، شرع الرجل في إخراج مسلسل «صقر قريش» الذي يحكي عن تاريخ المسلمين في الأندلس بدءاً من نشأة الخلافة الأموية فيها، على يد عبدالرحمن الداخل، تلاه مسلسل «ربيع قرطبة»، و«ملوك الطوائف»، فاستطاع بتلك الأعمال المؤثرة أن يحبب الفصحى من نفوس أهلها إلى جانب تغطية حقبة زمنية غاية في الأهمية من تاريخنا العربي والإسلامي ساهمت في تزويد الكسالى عن القراءة بمعلومات قيمة عن تراثهم وحضارتهم.
ثم كانت النقلة النوعية الكبيرة في حياة الرجل بإخراج مسلسل «عمر» رضي الله عنه، الذي أبدع في كتابته د. وليد سيف؛ ذلكم الرجل العبقري الملهم الذي أبرز في كثير من أعماله اللغة السهلة المفعمة بالتشبيهات والكنايات والاستعارات، ونتيجة للأداء المتقن على كل المستويات حاز المسلسل على نسب مشاهدة عالية للغاية في أنحاء العالم، وكانت بديلاً بحق عن الغثاء الذي أفسد الذوق، واللغة، وأرهق الروح!
وفي منتصف ثمانينيات القرن الماضي، كتب محفوظ عبدالرحمن «الكتابة على لحم يحترق»، وقبلها كتب «ليلة سقوط غرناطة»، بينما كتبت الأديبة نجاة رفعت الخطيب سيناريو مسلسل «أبو الطيب المتنبي» في مطلع الثمانينيات، وفي عام 2002م تعاون المخرج خلف العنزي مع المؤلف جمال أبو حمدان وأخرجا المسلسل التاريخي «امرؤ القيس: الثأر المر»، بخلاف بعض الأعمال الأخرى كمسلسل «عمر بن عبدالعزيز» الذي كان من إخراج أحمد توفيق، وتمثيل نور الشريف.
يذكر جيل السبعينيات والثمانينيات المسلسل العراقي «مدينة القواعد»، والمسلسل الآخر «أين مكاني من الإعراب» للفنانة فوزية الشندي، والفنان الراحل جعفر السعدي، حيث ركز هذان العملان على تعليم اللغة العربية وقواعدها بطريقة درامية سلسة، قربت الفصحى من نفوس أهلها، وعززت قيما أدبية والتزامات أخلاقية بعيداً عن الكسب المادي والانحدار الأخلاقي.
صورة سلبية
في المقابل، فإن كثيراً من الأعمال الفنية العربية قدمت صورة سلبية عن معلم اللغة العربية، فهو الشخصية الهزلية، البائسة الفقيرة، مهلهلة الثياب، كالتي جسدها نجيب الريحاني في فيلم «غزل البنات»، التي جسدها محمد هنيدي في فيلم «رمضان مبروك أبو العلمين»، أو التي جسدها الفنان عبدالمنعم إبراهيم في بعض أعماله ومن أشهرها فيلم «إسماعيل يس في الأسطول»، وفيلم «السفيرة عزيزة».
وفي هذا الإطار، تستدعي الذاكرة مشهداً من فيلم «الأيدي الناعمة»، وذلك حينما دخل الرجل الذي قرأ الإعلان المتعلق بسكن مجاني بإحدى السرايات على أحمد مظهر صاحب القصر الذي لا يجد ما يطعم به نفسه، وسأل الرجل صلاح ذو الفقار عن مهنته فأجاب: دكتور، ففرح الرجل لأنه سيجد مع الإقامة المجانية في القصر طبيباً يعالجه بالمجان أيضاً، فأفسد ذو الفقار على الرجل فرحته، وأعلمه أنه دكتور في «حتى»! ثم ضرب له مثلاً فقال: «أكلت السمكة حتى رأسها»، وانتهى المشهد بجملة قالها الرجل لا تخلو من سخرية: «والدكترة بتاعتك دي مقلية ولا مشوية»!
لم تتوقف السخرية عند هذا الحد، فقد حمل لواءها «الزعيم» لتبدأ فصول مسرحية هزلية غاية في الإسفاف، والمؤلم في الأمر أن المتأخرين من أهل الفن والطرب شقوا بطن العربية، وأخرجوا أمعاءها، وألقوا بها على قارعة الطريق!
إن المتتبع للأعمال الفنية في وطننا العربي الكبير سيجد أنها في الغالب اتخذت من اللغة العربية ومعلمها مصدراً للسخرية والتهكم، كما هي الحال في كثير من مظاهر حضارتنا الإسلامية والعربية، واللافت أن تلك السخرية تجد لها صدى كبيراً في نفوس أبناء العربية، ولا يخلو الأمر من جهل، وغباء!
فاللغة على حد توصيف الأديب مصطفى صادق الرافعي تمثّل أحد مظاهر التاريخ، ولا توجد أمة بغير تاريخ، ولذلك فإن الحفاظ على اللغة العربية والهوية، التي نتميز بها، يفرض التصدي لكل التحديات من خلال وسائل الإعلام والدراما الراقية، وإبداعات رموز الفن.
منافع متبادلة
على صعيد آخر، ساعدت اللغة الشعراء والفنانين في الوصول إلى شرائح كبيرة من الجمهور، فقصيدة «أراك عصي الدمع» من أجمل القصائد في الشعر العربي للفارس العربي البليغ أبو فراس الحمداني، الذي ما أن انبرى يفاخر في صدر القصيدة حتى هزمه الغزل، فلان قلبه، ورق فؤاده، وأنتج لنا واحدة من عيون الشعر العربي.
إن الحفاظ على اللغة العربية مطلب من المطالب الملحة، ذلك أنها الطريق المختصر لاستعادة الهوية، والتسليم المطلق لمحاولات الاعتداء عليها من قبل صناع الدراما فضلاً عن غيرهم ضرب من الجنون، فلا أقل من تنشئة جيل إذ لم يتعلمها فلا ينفر منها ولا يستهزئ بها ولا من المتحدثين بها!