رغم أن العلاقة بين شيخ الأزهر والنظام الحاكم في مصر بدت في أفضل حالاتها منذ لحظة الاجتماع الشهير في الثالث من يوليو.. فإن توالي الأحداث كشف عن اتساع الهوة بينهما يوماً بعد يوم.
فلم تكد تمر مناسبة دينية يخطب فيها رأس النظام إلا ويلمح إلى بعض بوادر هذه العلاقة المأزومة مع شيخ الأزهر، ولعل الجميع يتذكر كلمته الشهيرة “تعبتني يا فضيلة الإمام”.
ومنذ لحظة التلميح تلك وقد تبرع بعض حملة المباخر في الإعلام بالهجوم على الأزهر (المؤسسة والشخصيات) هجوماً تخطى مرحلة النقد البناء إلى مرحلة التدخل الفعلي في تفاصيل لا يمتلك المتحدثون فيها دراية كافية بها.
وقد كانت التهمة “الجاهزة” للأزهر ومناهجه وعلمائه هي أنهم داعمون للإرهاب قولاً وفعلاً، لدرجة أن أحدهم كتب في عدد “الأهرام” الحكومي قائلاً: “أغلقوا مفرخة الإرهاب”!
ولعل المتتبع لمنحنى سوء العلاقة بين الأزهر والنظام يلحظ وجود ثلاث قضايا رئيسة تسببت تراكمياً لوصول تلك العلاقة لهذا المستوى الذي صار الأزهر معه بكل ثقله العلمي والمعنوي كلأ مباحاً يرعى فيه إعلاميون ذووا توجهات معينة.
تجديد الخطاب الديني
فمنذ تولى رئيس النظام المصري الحالي عبدالفتاح السيسي مقاليد الحكم وهو يؤكد ضرورة العمل على تجديد الخطاب الديني، واضعاً أمله على الأزهر وموجهاً في أغلب الأحيان حديثه إلى شيخ الأزهر وعلمائه.
ففي الاحتفال بذكرى المولد النبوي العام الماضي وجه السيسي حديثه لشيخ الأزهر وعلمائه قائلاً: “ليس معقولاً أن يكون الفكر الذي نقدسه على مئات السنين يدفع الأمة بكاملها للقلق والخطر والقتل والتدمير في الدنيا كلها”، مطالباً بضرورة إحداث “ثورة دينية..” في تلك المفاهيم.
هذا التأكيد تلقفه الأزهر بطريقته المعتادة وحاول أن يؤكد ضرورة المواجهة المتأنية بالطريقة الفكرية، لكن يبدو أن تلك الطريقة لم ترق لـ”النظام”، فقرر الدفع بعنصر جديد ليتولى الملف وهو د. أسامة الأزهري، مستشاره الديني، الذي شن فيما بعد حملة على شيخ الأزهر تعريضاً، متهماً الأزهر تحت قيادته بالتباطؤ في إنجاح عملية تجديد الخطاب التي ينادي بها الرئيس.
ثم كانت القاصمة حين تحدث السيسي مباشرة عقب تفجيرات طنطا والإسكندرية عن تشكيل المجلس الأعلى لمكافحة التطرف والإرهاب قائلاً: “سيكون على أعلى مستوى وسيصدر بقانون هدفه أن يعطي هذا المجلس صلاحيات تمكنه من تنفيذ المطلوب من توصيات لضبط الموقف كله؛ إعلامية كانت.. قضائية كانت.. قانونية كانت.. خطاب ديني، أي إجراءات”.
مراقبون أكدوا أن تلك الكلمات كانت بمثابة توجيه، انطلقت بعده الاتهامات من كل حدب وصوب تجاه مؤسسة الأزهر الشريف، بالمسؤولية عما آلت إليه الأمور بسبب الفشل في ملف تجديد الخطاب الديني.
تكفير “داعش”
وهذه هي القضية الثانية التي يرى مراقبون أنها كانت إحدى القضايا التي تسببت في حالة الهجوم الضاري على الأزهر وشيخه وعلمائه ومناهجه.
وقد بدأت القضية حينما أصدر الأزهر بياناً أكد فيه عدم قوله بتكفير “داعش”، وكرر د. أحمد طيب تأكيده على هذه القضية في مناسبات عدة، منها ما أكده على هامش لقائه برؤساء تحرير الصحف وقتها قائلاً: الأزهر الشريف يرفض تكفير “داعش”؛ لأن الأزهر يتبع المذهب الأشعري الذي لا يكفر أحدًا مادام قد نطق الشهادتين واتبع القبلة، وهم من أهل القبلة، فلا يمكن تكفيرهم، مؤكدًا أن الأزهر تعرض لهجوم شديد بسبب ذلك، إلا أنه مستمر على موقفه ولن يتخلى عنه ولن يكفر أحدًا إلا إذا جحد الشخص صراحة ما أدخله في الإسلام.
وبين الأزهر متمثلاً في شيخه منطلقه الديني في هذا الموقف قائلاً في رده عن سؤال لأحد طلاب الجامعة في لقاء مفتوح: الكفر بالله هو الذي يخرج الشخص من الإيمان، والأزهر لا يحكم بالكفر على شخص حتى إذا ارتكب كل فظائع الدنيا، و”داعش” تؤمن ولكن ارتكبت كل الفظائع، ولكن نحكم عليها بالفسق والفجور، وليس لدينا حكم بتكفيرها، فمذهبنا أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان فهو مؤمن عاص، ولو أن مرتكب الكبيرة مات وهو مصرّ على كبيرته لا تستطيع أن تحكم عليه أنه من أهل النار ولكن أمره مفوض إلى الله.
وقد جر هذا الموقف سيلاً من الهجوم على شيخ الأزهر وعلى المؤسسة الأزهرية وصلت إلى حد اتهامها بدعم الإرهابيين وفتحت الباب واسعاً أمام حملات ممنهجة لتشويه الأزهر ومناهجه والمطالبة بتغييرها.
الطلاق الشفوي
وهذه معركة ثالثة أخذت من الوقت والجهد ما لا يتناسب مع طبيعتها، والسبب الوحيد في ذلك هو أن الذي طالب بها هو الرئيس.
ففي احتفالات أعياد الشرطة الماضية في يناير 2017م قال عبدالفتاح السيسي: نسب الطلاق بين الشعب كبيرة جداً، وعلينا التعاون لمواجهة هذه الظاهرة.
وأضاف أنه سأل رئيس الجهاز المركزي للتعبئة عن عدد حالات الزواج فأجابه: 900 ألف، و40% منهم يتم الطلاق بينهم خلال الخمس سنوات الأولى.
رد الأزهر كان فورياً؛ حيث أكد وكيله أن الأزهر سيكلف لجانه بدراسة الأمر وبحثه بطريقة علمية استجابة لدعوة الرئيس.
وبعد فترة من الجدل حسمت هيئة كبار العلماء موقفها الرافض لهذه الدعوة والمؤكدة لوقوع هذا الطلاق ما دام قد استوفى أركانه الشرعية، وقالت الهيئة: إنَّ ظاهرةَ شيوع الطلاق لا يقضي عليها اشتراط الإشهاد أو التوثيق، وبعد هذا الموقف اتسع الهجوم على الأزهر وعلمائه بصورة كبيرة، للدرجة التي طالب فيها بعض الإعلاميين بضرورة استقالة شيخ الأزهر نفسه.
الأزهر والإرهاب
الحديث عن دعم الأزهر ومناهجه للإرهاب من خلال نقلها لبعض الآراء المتشددة في تاريخ الفقه الإسلامي تم إنتاجها في وقت معين وسياق مخصوص، هذا الحديث يحتاج إلى عودة إلى الوراء قليلاً.
ففي نوفمبر 2016م، نقلت “الإندبندنت” تقريراً لباحثين عسكريين أمريكيين، يقولون فيه: إن الإسلام ليس أبرز قوة دافعة وراء انضمام آلاف المقاتلين الأجانب لـ”داعش” والمجموعات الإرهابية الأخرى في العراق وسورية.
الدراسة التي أجراها مركز مكافحة الإرهاب “سي تي سي” في الأكاديمية العسكرية الأمريكية “ويست بوينت” أن الغالبية من بين 1200 مقاتل شملهم الاستطلاع لم يتلقوا تعليمًا دينيًا رسميًا ولم يتقيدوا بتعاليم الإسلام طيلة حياتهم.
المحللون أشاروا إلى أن العديد من المقاتلين الأجانب المسافرين من الغرب، ينجذبون للجماعات الجهادية من خلال الهويات الثقافية والسياسية لها، بدلاً من الإسلام الذي يصبح له دور ثانوي في انضمامهم.
ويتفق التحليل الذي أجري في الأكاديمية العسكرية الأمريكية مع مجموعة من استمارات الدخول لـ”داعش” تم تسريبها في وقت سابق من هذا العام.
فقد نشرت “ديلي ميل” خبرًا بعنوان “استمارات تجنيد داعش تظهر أن 70% من مقاتلي التنظيم لا يكادون يعرفون شيئًا عن الإسلام”، جاء فيه أن وثائق مسربة من تنظيم “داعش” أظهرت أن 70% ممن تم تجنيدهم من قبل التنظيم لا يكادون يعرفون شيئًا عن الإسلام.
الصحيفة أضافت أن تحليل استمارات التجنيد الخاصة بالجماعة الإرهابية قد أظهر افتقار العديد من مقاتلي التنظيم إلى المعلومات الأساسية حول القرآن والحديث.
كما أظهر تحليل نحو 3 آلاف استمارة تجنيد أن 24% من المجندين لا يمتلكون سوى معرفة متوسطة بالإسلام، بينما لا يعد سوى 5% منهم فقط دارسين متقدمين للإسلام، ولم يكن من بينهم من يحفظ القرآن سوى خمسة مجندين فقط.
الأزهر إذن وكل جامعاتنا الإسلامية طبقاً لتلك الدراسات الغربية برآء من دعم الإرهاب، بل العكس هو الصحيح، فوجود تلك الجامعات هو الضمانة الأنجع لمواجهة تلك الأفكار المغلوطة الناتجة عن فراغ علمي وضحالة ثقافية إسلامية، أو إن شئت فقل علمنة مقنعة!
المصدر: “إسلام أون لاين”.