العفاف والفضيلة هل هما مسؤولية فردية، يتحصل عليهما الشخص بجهده واجتهاده، أم أن جزءاً كبيراً من تلك المسؤولية يقع على عاتق الدولة وسلطتها الملزمة، وقدرتها على إنفاذ القانون، وإنزال العقوبة على المخالف؟ وهل يعني ذلك أن تدس السلطة أنفها في حياة الناس، وتجبرهم على الفضيلة، وتتغول على مجالهم الخاص، بالرقابة والتنصت؟
وهل تدفع الدولة فاتورة ترك قطاعات واسعة من المجتمع للفضيلة والعفاف، وانغماسهم في الشهوات والفجور؟ وهل انتهاب الرذيلة للآداب العامة، تتحمل الدولة تكلفته من اقتصادها واستقرارها السياسي والأمني؟
فاتورة غياب العفاف
إحصاءات عالمية تؤكد أن عدد البغايا في العالم يزيد على 52 مليوناً، غير أن هذا الرقم أقل بكثير مما هو موجود على الأرض، فالرقم يشير إلى النساء اللاتي يمتهن البغاء، وإذا أضفنا إليهن من يقعن في الرذيلة من تلقاء أنفسهن، لربما تضاعف العدد، وحسب الإحصاءات، يبلغ حجم تجارة الجنس العالمية حوالي 180 مليار دولار، وفي بعض البلاد تعد الدعارة أحد المدخولات المهمة في الضرائب، وتقدر عدد البغايا في بعض دول الاتحاد الأوروبي بأكثر من مليون ومائتي ألف، وبعض الدول شرّعت البغاء مثل ألمانيا عام 2002، وهؤلاء البغايا يخضعن لرقابة الدولة، وللكشف الدوري عليهن حتى لا يتسببن في تفشي الأمراض الجنسية بسبب العدوى؛ لذا تعد ألمانيا أكبر مستهلك للواقي الذكري في العالم، ويكاد الغالبية العظمى من مراهقي ألمانيا استعملوا هذا الواقي، لكن هل هذا الانفجار الجنسي الضخم، هل دفعت الدولة تكلفته؟
تشير الإحصاءات إلى أن وباء نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)، الذي يعد الانفلات الجنسي أحد أهم أسبابه، من أخطر التحديات التي توجه العالم، فهناك أكثر من 38 مليون شخص مصاب بالإيدز حالياً، وأصيب أكثر من 85 مليون إنسان بهذا المرض منذ ظهوره عام 1981م، وتوفي بسببه حوالي 40.1 مليون إنسان، وتسجل إصابات يومية بالإيدز تقدر بـ4 آلاف إصابة.
وأمام هذا التفشي للإيدز، تدخلت الأمم المتحدة، وسعت أن يكون عام 2030م هو عام القضاء على الإيدز عالمياً، وتم إنشاء صندوق دولي لمكافحته، ورصد برنامج الأمم المتحدة لمكافحة الإيدز 22.6 مليار دولار لإنجاز مهمته في أكثر من 100 دولة، لكن النظرة العالمية تكثف جهودها، من خلال وسائل ليس من بينها المطالبة بالعفة والفضيلة، ولكن تطرح ضوابط للممارسة الجنسية تحول دون الإصابة بالعدوى، ومن هنا فالدولة تدفع ثمناً باهظاً لمواجهة الوباء، وتوجيه جزء كبير من مواردها للرعاية الصحية وحصار المرض.
أما جريمة الاغتصاب التي يقترن فيها الفعل الجنسي بالإكراه، فتشير الإحصاءات إلى أن 35% من النساء في العالم تعرضن للتحرش الجنسي، و7% منهن تعرضن للاغتصاب أو محاولة الاغتصاب، وأن 9% فقط من المغتصبين هم الذين يُحاكمون، أما 97% فهم طلقاء وغير معاقبين، وفي بلد مثل بريطانيا، تشير الإحصاءات إلى أن 6.5 ملايين من النساء في إنجلترا وويلز تعرضن للاغتصاب أو محاولة الاغتصاب، وأكدت إحصاءات بريطانيا وجود زيادة بنسبة 32% في الجرائم الجنسية المبلغ عنها عام 2022 مقارنة بالعام 2021م، حيث وصل العدد إلى أكثر من 194 ألف حالة اغتصاب تم التبليغ عنها.
أما ما يتعلق بالأمراض الجنسية في العالم، فالإحصاءات تقول: إن أكثر من مليون عدوى تنتقل عبر الاتصال الجنسي كل يوم عالمياً، كما أن هناك ما يقرب من 374 مليون إصابة كل عام بأحد الأمراض الأربعة المنقولة جنسياً، ومنها السيلان والزهري، وأن هناك 500 مليون شخص في الفترة العمرية من 15 – 49 عاماً يعانون من عدوى بأمراض تناسلية بفيروس الهربس، وهناك أكثر من مليون امرأة مصابة بمرض الزهري، وهناك أكثر من 300 ألف وفاة بسبب سرطان الرحم، وأن أكثر من 30 نوعاً من البكتيريا والفيروسات والطفيليات المختلفة تنتقل عن طريق الاتصال الجنسي، و4 منها غير قابلة للشفاء.
أما نصيحة منظمة الصحة العالمية، فكانت هو ضرورة استخدام الواقي الذكري بشكل صحيح، ورفع البعض شعار «إما أن تكون آمناً.. أو تستمتع باللقاء» تحفيزاً على استخدامه، وتشير إحصاءات إلى أن 15% من الأطفال في العالم غير شرعيين، ووفق دراسة إحصائية صادرة عام 2020م عن مركز «بيو» لأبحاث الدين، فإن هناك عزوفاً عالمياً عن الزواج، وأن جيل الألفية الثانية أبطأ في تكوين الأسرة، وهو وضع وصف بالمأساوي يساهم في الانفلات الجنسي.
ورغم ذلك، لم تطرح العفة والفضيلة كعلاج جذري للفوضى والانفلات الجنسي العالمي، ففي الولايات المتحدة -مثلاً- إحصاءات رسمية تؤكد أن 20% من الأشخاص مصابون بعدوى تنتقل عن طريق الاتصال الجنسي، ووصفت تقارير حكومية أن عبء الأمراض المنقولة عن طريق الاتصال الجنسي مذهل، بعدما وصلت معدلات الإصابة إلى مستويات غير مسبوقة، وكلفت الاقتصاد الأمريكي ما يقرب من 16 مليار دولار عام 2018م، وذكرت الإحصاءات أن نصف الأمراض المنقولة جنسياً في الولايات المتحدة يُصاب بها الشباب، أي القوة الإنتاجية والاقتصادية الأهم في المجتمع، ورأى الأمريكيون أن تلك الأمراض تمثل تهديداً للأمة، ولها انعكاساتها الاقتصادية المدمرة، وإذا أضفنا الشذوذ إلى السعار الجنسي السابق سيصبح الأمر مخيفاً، ففي الولايات المتحدة تقديرات رسمية تشير إلى أن 7.1% من الأشخاص شواذ.
الدولة ورعاية العفاف
في كتابه «دروس من التاريخ»، يقول المؤرخ ويل ديورانت: قد يتساءل شابٌّ تفور الهرمونات في جسده: «لماذا لا يُعطى الحرية الكاملة لرغباته الجنسية؟!»، لكن إذا لم تُقيد تلك الرغبات بالضوابط الاجتماعية من العادات والتقاليد والأخلاق والقوانين، فقد يُفسد هذا الشاب حياته قبل أن يفهم.. الجنس ما هو إلا نهر من نار، يجب أن يُخمد ويُبرد بمئات القيود، وإلا سيجرف ويستنزف الأفراد والجماعات في عشوائيته وعنفوانه، ومن ثم إذا لم تُقِم الدولة السدود الهائلة، لتوقف هجمات الفيضانات، ولترشد هذه الطاقة الهادرة للمياه، فإن الفيضان سيجرف الجميع، والشهوات تحتاج إلى تلك السدود المنيعة، التي يجب على الدولة أن توليها عنايتها، ولا تترك ذلك الانفلات ليدمر الجميع، وما دامت الدولة تدفع تلك الفاتورة الباهظة للانفلات من صحتها وأمنها واقتصادها، فإن لها حقاً أن تنظم المجال العام بما يحرض على الفضيلة، ويكون مجالاً غير محرض على الرذيلة والفسوق والفجور وإثارة الشهوات وإلهاب الغرائز، فالسلطة مسؤولة عن أخلاق الناس مسؤولية كبيرة، ويجب أن تولي لها رعايتها، كما تولي للأجساد والطرق رعايتها، فالإنسان قبل البنيان، والإنسان هو في حقيقته كائن أخلاقي، وهو ما يميزه عن الحيوان، فلغرائزه كوابح من الضمير والأخلاق، وهي ميزة لم تُمنح للحيوان.
وأمام هذا الانفلات، بدأت تظهر تحركات من أفراد وتدخلات من دول لرعاية الفضيلة وحماية المجال العام من السعار الجنسي، فظهرت حركات «الطهرانيين»(1) التي لها جذور قديمة، وهي حركة تتوسع في بلدان غربية خاصة الولايات المتحدة، واستقطبت ما يقرب من 10% من المراهقين الذين أكدوا أنهم لم يمارسوا الجنس وحافظوا على العفاف؛ بل إن الرئيس الأسبق جورج بوش نفذ وعداً انتخابياً بزيادة الإنفاق على العفة عام 2005م.
ومن هنا، يعد حضور الدولة بسلطتها الملزمة لضبط المجال العام أمراً مهماً للحفاظ على العفاف، ويتجلى ذلك في تجربة السويد(2) في مقاومة الدعارة، فقد سنَّت قانوناً عام 1999م يُجرم شراء الجنس، وهو قانون «كفينوفريد» (The Kvinnofrid law)، وخلال 24 عاماً من صدور القانون انخفضت الدعارة بما يقارب النصف تقريباً، وبجانب قوة القانون الملزمة، عملت الدولة باعتبارها مسؤولة عن أخلاق الناس على تغيير تصورات الشخص حول ممارسة الدعارة، إذ تم تصويره بأنه مشترٍ للجنس، وهو توصيف يحمل الاستغلال والاتجار بالبشر، وباتت ممارسة الشخص للدعارة عملاً مشيناً، وبذلك قمع القانون السويدي الطلب على الجنس، وذلك النجاح ما كان يتحقق لولا جهد الدولة السويدية، وكان نجاح التجربة السويدية في مواجهة الدعارة تأثيراتها في بعض الدول الأوروبية التي تأثرت بالتجربة مثل النرويج وأيسلندا.
____________________________________________
(1) حركة اجتماعية ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر سعت إلى إلغاء الدعارة والأنشطة الجنسية الأخرى التي كانت تعتبر غير أخلاقية وفقًا للأخلاق المسيحية، وكانت الحركة نشطة في الدول الناطقة باللغة الإنجليزية من أواخر ستينيات القرن التاسع عشر إلى حوالي عام 1910م، حيث تم تمرير قانون عرف بـ«قانون مان» (Mann Act) عام 1910م يجرم استخدام النساء في الدعرة أو أغراض غير أخلاقية.
(2) في السويد تم التبليغ عن 9400 حالة اغتصاب عام 2022م، ووقعت 24 ألف جريمة جنسية، وفقًا لمسح الجريمة السويدي السنوي لعام 2019، فقد قدر أن 5.6% من إجمالي السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و84 عامًا ضحية لجرائم جنسية.