بدأت أتخوف على ما اختزنته من قصص وحكايات، هناك من يتربص بها، أو لعل حالة الخرف التي تنتابني كل فترة تركت أثرها بأن تتداخل في بعضها، كيف لكل هذه الحكايات أن تبقى؟
حكاية الثعلب واليمامة اليتيمة، تخيلوا أنني حين حاولت سردها وجدتني عاجزا أن أكملها كما تعودت فيما سبق، زاحم الغراب اليمامة والكلب الأزعر فجاءت أشد غرابة، لم أكن أتوقع أن يهزمني الخرف بتلك السهولة!
يوسف الصغير وقد تشبع بحكاياتي يتملل مني، رغم هذا أحاول جاهدا أن أهبه كل ما لدي، نظر إليَّ متعجبا، بدا له أن يصوب مسار الحكي؛ إنه مهذب لدرجة أنه استحى أن يذكرني بما حدث من تآكل مفرداتي.
ترى ما الحل؟
هل أدون كل حكاياتي في حافظة خاصة ومن ثم تبقى آمنة؟
أخشى أن يسطو عليها لص، أو ينال منها قلم رجل الأرصاد الذي يعتاش على نزيف الأقلام، كل بطاقات الهوية الممغنطة مكدسة بإشارات غامضة، حتى حكاية الثعلب ومالك الحزين تتواجد لدى القابعين في سراديب أقبية قلعة الجبل، يقال إن كل هذا ممنوع لدى الذين يديرون المصابيح الضوئية في البناية المقابلة.
يبدو أن هذه حيلة غير موفقة؛ في بيتنا يسكن فأر يعتاش على أوراقي منها المختص بمجاهيل ذاكرتي، كلما مضى زمن استجمعت أحداثه وراء تلك الحروف، ربما يأتي أحد أبنائي ويفك رموزها، حكاياتنا هي ما سيبقى منا، أخشى أن يهزأ بنا القادمون، يبدو أنهم سيركلون سيرتنا بأحذيتهم المصنوعة من جلود مستوردة من بلاد “الهوت دوج”.
هذا الفأر لا يترك شيئا يخصني إلا تناوله قرضا بأسنانه الحديدية، ثمة سر لم أستطع التوصل إلى لغزه؛ ذلك لم يكن حيوانا قارضا إنه متصل بدائرة كهربائية، في البناية المقابلة أجهزة تحكم؛ يقال إنها تتبع هيئة الأرصاد.
تسلل يوسف إلى خزانة الكتب، يبحث عن الحكايات من أي مكان تأتي، أخذت أراقبه دون أن يدري، يضع قلما فوق أذنه؛ استعار نظارتي، يحاول أن يصل إلى المجهول، حين كنت أقص له إحدى تلك الحكايات، بدأ ممتعضا، أحس أنني أضع في عقله ما يعجز عنه: كليلة ودمنة ومالك الحزين مع العصفورة، سألني: ولم كان عم مالك حزينا؟
هل أجيبه بما أشعر به؟
مؤكد أن ذلك يسبب له ألما، ألم أخبركم بأن يوسف ذو قلب طيب، أراه شبيه أبي، حاولت أن أقدم له كل حكاياتي.. متعجل أنا دائما لكي أطمئن على تراث الأجداد.
حين يداعبه طائف النوم أنتهزها فرصة كي أتسلل إلى عقله بما أود أن يختزنه من أحداث مضى زمنها؛ لم يرَ العسكري الأسود ذلك الذي يضرب الأرض بحذائه الكالح، كنا نخافه، نذعر حين نراه؛ ليت أمهاتنا ما حدثتنا عنه، يزورنا في كالح الأحلام، والآن نترقبه، يقال إنه يتبع رجال الأرصاد؛ أمكنة فاسدة وشخوص بائسة؛ أي جناية أرتكبها حين أترك في مسارب أوراقي تلك الحماقات؟
تقلصت مساحة الخلم، لم تعد لدينا حاجة إلى كل تلك البلاد؛ إنها نهب لساكني ناطحات السماء، على الجوعى أن يتقمموا نفايات هؤلاء الذين يصطحبون الكلاب والنساء عند منتصف الليل يتناسلون في علب ذات أضواء خافتة؛ يتمايلون كما لو أن الأرض مصابة بالخرف مثلي.
تطلب مني أن أترفق به فهو ما يزال صغيرا، تدور بيني وبينها مشاغبات: أي الوسائل أفضل مع يوسف لكي تغتني لغته؟
أشعر أنها تحرص أن يتخلص من إسر حكاياتي، يرفض الصغار أن أهب كل ما في الخزانة ليوسف.
يبدو أن الأحد عشر كوكبا يتكررون كل زمن، لست يعقوب النبي.. كل ما لدي حروف تستشرف القادم، أخشى أن يلقوا بيوسف في بئر الحكايات!
سأعطيه مفتاح البئر الذي وضعت فوق مدخله حجرة بيضاء، عليها نجمة وهلال، في زمن الاغتراب والنفي في الوطن علينا أن نكلم الحجر، كان الآباء يفعلون هذا، لا تسمعوا لمن يسخرون منهم، فتلك حكايات سجلوها؛ ربما حب أو حرب لكنها على أية حال تشير إلى إنسان مر من هنا!
تخوفت من ذلك الفأر الآلي، كلما تصفحت كتابا وجدت علامة مضيئة، ثمة أرقام تحصي الحروف وأخرى مكلفة بتتبع تكونها في كلمات وجمل، في مرة اشتريت كتابا كنت متشوقا إلى مطالعته، كثيرة هي الأشياء التي نعجز أن نتحصل عليها حتى إذا توهمنا أن الوقت يناسب تحققها تسربت من بين أيدينا؛ يبدو أن تلك لعبة يتسلى بها أحد سكان البناية ذات الأنوار المضاءة ليلا ونهارا.
لم ينتظر يوسف حتى أضع الكتاب في صفه، أسرع وبدأ يقلب فيه، توقف عند مفردة وجد تحتها شارة ملونة، في لمح البصر قفز الفأر الذي أظنه آلة وأخذ يصدر صوتا عجيبا، أشبه بأزيز طائرة صغيرة، البناية المقابلة بها لغط وحركة مفاجئة.
انصرفت لمراجعة قائمة الحكايات والقصص، دهشت لأنني وجدت كتبا وأوراقا فقدتها منذ فترة أعجز عن رصدها بدقة؛ أخبرتكم من قبل أن داء الخرف تسلل إلى عقلي، كانت لدى يوسف مخبأة في زاوية من حجرة لا تدخلها الشمس، يبدو أنه تحول إلى ذلك الكائن الآلي الذي تحركه الأنوار المضاءة في البناية المقابلة، لا أدري متى فعلوا به كل هذا، نتناسى أن الآخرين ينتظرون اللحظة المناسبة ليشاغبوا في عقول الصغار.