جاء من بيت عز وشرف لولا اتباع أبيه لسلطان هواه، جاء تملأ الحكمة قلبه، وكان قلبه طوع عقيدته، فتقدَّم الصف المسلم الوليد وكان مكانه في الصدارة.
أجل، هكذا جاء، وكذلك كان.
فما أن حطَّ المهاجر العظيم بدار مهاجره حتى بادر إليه مبايعًا، وحين سأله صلى الله عليه وسلم عن اسمه قال: الْحُبَاب؛ فسماه صلى الله عليه وسلم عبدالله.
ومن لحظتها عرفه التاريخ الإسلامي العظيم، وعرفناه معه باسم عبدالله بن عبدالله بن أُبَيّ بن سلول رضي الله عنه.
ومن وقتها أيضاً ولَّى وجهه شطر نهجه الدفاعي عن الإسلام متبتلًا له، وكان منهجه ضميرًا واحدًا لا يقبل التجزئة أو التناقض، فهو في دفاعه ضد الكفر، كما هو في دفاعه ضد النفاق، وهو في دفاعه ضد أبيه، كما هو في دفاعه ضد كل كافر، أو منافق زيَّـنت له نفسه النَّيل من دعوة الإسلام، أو من الداعي إليها صلى الله عليه وسلم.
ولخلع دثار(1) من اليقين على ما سلف من معان، لا بد من وقفة مع موقفه في أروع تصميم وأعظم مؤازرة للنبي صلى الله عليه وسلم ضد أبيه، أجل ضد أبيه! فكان أعظم بلاء لدينه الغضّ(2)! وأروع نجاح لعظمة نفسه! وليستقر موقفه الرائع في مشهده وإطاره، دعونا نسبقه ببيان لموقف أبيه.
ما أن انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة «بني المصطلق»، وأمر الجيش بأخذ قسط من الراحة عند ماء المريسيع حتى تنافس على الماء أنصاريّ ومهاجريّ، وأخذتهما دعوة الجاهلية، فاستنجد المهاجري بالمهاجرين، واستنجد الأنصاري بالأنصار، وكان عبدالله بن أُبَيّ بن سلول يجالس قِلة من رجال دانت له رقابهم، وضارعوه(3) في شيئين؛ النفاق، وخلو قلوبهم وقتذاك من كل رغبة سوى رغبة الحطِّ من قدر الإسلام ورحيل النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين عن المدينة!
وما أن سمع ابن أُبَيّ صرخة الأنصاري حتى هتف بمن حوله: أوقد فعلوها؟ قد ثاورنا(4) في بلادنا، والله ما مثلنا وجلابيب(5) قريش هذه، إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، والله لئن رجعنا إلى المدينة لَيُخْرِجنّ الأعَزُّ منها الأذلَّ!
ثم أردف وهو يضغط على الحروف: هذا ما صنعتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم من بلادكم إلى غيرها.
والتقطت أذن الغلام المؤمن زيد بن أرقم كلمات ابن أُبيّ، وكان الغلام الواعد يعي معنى العزة، ويطلبها لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فمضى لوقته صوب النبي صلى الله عليه وسلم، وأعلمه بمقولة ابن أُبيّ.
ولما بلغ ابن أبيّ أن صيحة نفاقه تنامت إلى أسماع النبي صلى الله عليه وسلم بادر إليه مهرولًا، ونافيًا، ومدعيًا عدم القول، وطفق يحلف بالله على ادعائه، وصدق الله العظيم حيث قال: (يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ) (التوبة 74).
ولما كان ابن أُبيّ عظيمًا في قومه، ويعيش بينهم بمنزلة، قالوا: يا رسول الله، عسى أن يكون الغلام قد أوهم، ولم يثبت ما قال الرجل.
وأمر صلى الله عليه وسلم الجيش بالرَّواحِ(6)، فلقيه أسيد بن حضير رضي الله عن قائلًا: يا رسول الله، والله لقد رحت في ساعة مبكرة ما كنت تروح فيها! فقال صلى الله عليه وسلم: «أما بلغك ما قال صاحبك ابن أُبي؟ زعم أنه إذا قدم المدينة سيخرج الأعزُّ منها الأذلَّ»(7)، فقال أسيد من فوره: فأنت يا رسول الله العزيز وهو الذليل، ثم استطرد ليرفع عن نفس النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأسى: ارفق به يا رسول الله، فوالله لقد جاء الله بك وإنَّا لننظم له الخرز لنتوّجه، فإنه يرى أنك قد سلبته ملكًا.
وبقدر رغبة ابن أُبيّ في هدم الدين، كان طموح ولده في تثبيت أركانه، أجل.. سمع عبدالله بمقولة أبيه، وعلم بإنكاره لها في أشد صور الإنكار، ثم جاءت السماء بالحقيقة التي أوصلت ضجيج الحزن في نفس عبدالله إلى أشدّه، وأترعت قلبه بألوان الهم والكآبة، حيث دعا صلى الله عليه وسلم الغلام زيد بن أرقم، وقال له: «إن الله قد صدقك يا زيد»(8)، ثم تلا عليه حكم السماء وتصديقها له: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ {7} يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (المنافقون)، هبط الوحي بالقول الفصل، وأثبت القضية في ضمير عبدالله، فهل يدع عبدالله رسول الله يهان ولو بالكلمة؟ كلا، وألف كلا! فلم تُلْجِئْهُ أُبُوَّةُ ابن أُبيّ له إلى الصمت، ولئن حارب أبوه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكلمة، فسوف يحارب هو أباه بالسيف!
فقد كان ذهن عبدالله يطمئن ويسكن تمامًا إلى معنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالمدينة، لن يبرحها أو يعدل عنها، ولن يتحوَّل عن ديارهم إلى ديار بديلة، وإن العزة لله ولرسوله، وإن الذلة لأبيه ونظائره، وصدق والله عبدالله، وحسبه من برهان على صدقه، وعظمة عقيدته أنه انتفض صارخًا، معترضًا على أبيه، وراح يطامن من كبريائه، ويهيل من منزلته، بل إنه ذهب في ولائه لله ولرسوله مذهبًا بعيدًا، وراح يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم قتل أبيه إن رغب صلى الله عليه وسلم في قتله، شريطة أن يتم القتل بيديه هو، فقد خاف أن يقتله غيره، فيرى قاتل أبيه يمشي بين الناس، فتأخذه نفسه(9) فيقتله بأبيه فيكون قد قتل مسلمًا بكافر، ولكن إذا قتله هو فيما ارتأى فقد أراح واستراح.
لم يكن عبدالله عاقًا لأبيه، وإنما كان بارًا بدينه، وإن موقفه يبعث حبه في النفوس، ويبتعث فيها الإعجاب به!
فقد مضى سراعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسمعه مقولته التي ستبقى أصداؤها تترد في طول التاريخ وعرضه: هو والله الذليل وأنت العزيز يا رسول الله، إن أذنت لي في قتله قتلته، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها أحد أبر بوالده مني، ولكني أخشى أن تأمر به رجلًا من المسلمين فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي على الأرض حيًا حتى أقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر فأدخل النار.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم طامنه(10)، وجبر كسر نفسه، وأوصاه بأبيه خيرًا: «بل نحسن صحبته ونترفق به ما صحبنا، ولا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، لكن بر أباك وأحسن صحبته»(11).
إن تصرف عبدالله يسوق برهانًا جليًا على أن رابطة العقيدة أوثق الروابط، وإن وشيجة الحب في الله أقوى الوشائج، إنها والله لعظمة متبادلة صبها الإسلام في النفوس.
فَقِف هنا، أيها الفتى المسلم، تأمل بقلب فاقه(12)، وذهن واع، وتعلَّم كيف تجعل العمل من أجل الإسلام مطمحًا تعدو إليه نفسك في كل زمان وأي مكان؟ وألَّا تُزايد على دينك يوماً، ولا تعدل به غيره حتى لو كان هذا الغير أباك.
كان عبدالله شجاعًا في عرضه هذا أكمل الشجاعة، مخلصًا لدينه أجمل الإخلاص، ولما مات أبوه تبدَّى برّهُ الرائع به، ولمَ لا؟! أما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها أحد أبرَّ بوالده مني؟ أما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ولكن بر أباك وأحسن صحبته»؟ لذا بادر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال راجيًا: يا رسول الله، أعطني قميصك أكفِّنْهُ فيه، وصلِّ عليه، واستغفر له، فأعطاه صلى الله عليه وسلم قميصه، وقال: «آذني(13) أصلي عليه»، فآذنه، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر رضي الله عنه، وقال: يا رسول الله، أليس الله نهاك أن تصلي على المنافقين؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أنا بين خيرتين، قال الله تعالى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ) (التوبة: 80)»، فصلى عليه، فنزلت: (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ) (التوبة: 84)(14).
ما أفجع قلب عبدالله المخلص! وما أمرَّ حزنه لما صار أكيداً من مصير أبيه، وميتته على النفاق! أراد لأبيه أن يرقد في قبره مشمولًا ببركات النبي صلى الله عليه وسلم وقميصه، ربما هيَّـأت له تلك النفحات الشريفة أمر خير في قبره، ويوم بعثه، وساعة حسابه، وراعى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم مشاعر عبدالله أعظم مراعاة، ولبَّاه إلى ما أراد، وأعطاه قميصه، بل وزاده صلى الله عليه وسلم أضعاف ما أراد، فقال له: «آذني أصلى عليه»، ولكن لله الأمر من قبل ومن بعد.
قلنا: كان عبدالله شجاعًا في عرضه لقتل أبيه، وكان رائعًا في طلبه لقميص النبي صلى الله عليه وسلم ليكفِّنه فيه، وما أدركناه من سيرته أن صور شجاعته، ومشاهد روعته كانت تتوالى أمام ناظري التاريخ منذ عرف الإسلام إلى قلبه سبيلًا، فقد شهد رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم جميع مشاهده ومعاركه، وكان في «بدر» معركة الإسلام الأولى كالقذيفة التي يتوالى قذفها على صفوف القرشيين، وترك خوضها في نفسه أثرًا حبَّـب إليه خوض المعارك.
وفي «أُحد»، عاد أبوه عبدالله بن أُبيّ إلى المدينة بثلث الجيش، فلاقى عبدالله من الألم النفسي بسبب فعلة أبيه ما لا يوصف ولا يتصور، فأراد أن يصوغ من بلائه –لنفسه، ولدينه، وللتاريخ- عِوضًا عن نفاق أبيه فأبْلى بلاء ندر نظيره، وعزَّ مثيله.
وكان هناك مشركون من ذوي قرباه، خرجوا محاربين، وكانت رؤيته لهم تشد زناد نشاطه، وتشعل لهيب عزمه على الخلاص منهم، ويومها أصيب رضي الله عنه وسقطت ثنيته(15)، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ثنية من معدن.
وطفق عبدالله يعد الخُطى إلى المعارك، ويخوضها باحثًا عن إحدى الحسنيين؛ النصر أو الشهادة، لكأن لسان حاله يردد: ألا ما أمتع القتال من أجلها!
وصعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ووجد(16) عبدالله عليه وجدًا ما عرفته نفسه قبل ذاك اليوم، وما وجد عزاءً عن فقد النبي صلى الله عليه وسلم إلَّا في اللحاق به إلى جنات ربه، وما ألفى سبيلًا إلى ذلك إلَّا أن يُبْلي في المعارك أعظم البلاء، وأشدّه، علَّه يظفر بأمنيته، وهو بين هذه وتلك يبحث عن أبعاد جديدة لرسالته أهمها أن يُنسي التاريخ نفاق أبيه.
حتى جاء يوم من أعماق التاريخ الإسلامي، يوم له ما لغيره، وفيه ما ليس في سواه، يوم سارت جيوش أبي بكر رضي الله عنه إلى «اليمامة»، وارتفع لواء الإسلام في الأفق خفاقًا، يومذاك كان حبُّ التضحية تملأ قلب عبدالله فصاغ منه مهرجاناً عظيماً.
أما كان كل همِّهِ الظفر بأمنيته، وأن يُنسي التاريخ نفاق أبيه، ها هو أبوه قد مات وأفضى إلى ما قدم، وها هي المناسبة جاءته تسعى فلينفتح لها قلبه قبل أحضانه.
وبدأت المعركة، وفي زيارة خاطفة أرسل عبدالله بصره إلى السماء يسألها ويرجوها، وراح يتواثب بين صفوف بني حنيفة في جسارة الأسود، ورشاقة الغزلان، وفي تحدٍّ رهيب، ودون مداراة، أو استخفاء يبحث عن إحدى الحسنيين.
وحمى الوطيس(17)، وفي مشهد قلَّما يرى التاريخ مثيل شجاعته، وشبيه اقتحامه، قذف عبدالله بنفسه بين أعدائه، يصول يمينًـا، ويجول يسارًا، يقطف الرؤوس، ويسدد الطعان، لكأن بين ضلوعه ألف قلب من قلوب الشجعان، حتى أدهش بني حنيفة بطشه، وأذهلتهم سطوته، وأحدث في صفوفهم ثغرة عظيمة.
وما أحسب عبدالله الآن إلَّا مشوقاً إلى الجنة، وما عاد يحتمل الصبر عنها، وتلاقى شوقه مع قدره، فلما دخل في الثغرة بين صفوف بني حنيفة احتوشته(18) السهام من كل جانب، وطفقت تخترق جسدًا شامخًا راح يتلوى في سعادة، ويختلج في شوق إلى المصير، وبوجه أشرق فيه نور الشمس سقط شهيدًا، وغرد المكان الوسيع من حوله، ودفعت رياح الجنة زورقه إليها، ليتلاقيا على شوق متبادل.
فهل عرفت ساحات الحروب شبيهًا له سوى إخوانه من صحابة محمد صلى الله عليه وسلم؟! وهل راجت سوق الشهادة كما راجت في أيامهم؟!
رضي الله عنك يا عبدالله، فقد سلكت إلى الجنة مسلكاً قلَّ سالكوه، وما ذكر التاريخ نفاق أبيك إلَّا وذكر إخلاصك المفيض، وما انحنى لسانه بلائمة على حسد أبيك للنبي صلى الله عليه وسلم، إلا وانثنى على حبك له حامداً.
وحقيق بالشاب المسلم أن يرسل بصره إلى السماء يسألها، ويرجوها ألَّا تحرمه من لقائك هناك(19).
____________________________
(1) غطاء.
(2) اختبار لدينه الجديد.
(3) شابهوه.
(4) كاثرونا وزاحمونا.
(5) الذين جُلِبوا من قريش، والجَلْبُ: سَوَقُ الشيء من مكان لآخر.
(6) المسير في أي وقت ليلًا أو نهارًا.
(7) حديث صحيح: أخرجه البخاري (4907)، ومسلم (2584).
(8) حديث صحيح أخرجه البخاري في الصحيح (6/ 189)، والترمذي في سننه (3314).
(9) تأخذه الحمية والعصبية.
(10) طمأنه وهدَّأه.
(11) أخرجه الحاكم (6490)، محمد صلى الله عليه وسلم: محمد رشيد رضا (1/ 170)
(12) فاهم.
(13) أعلمني عندما تنتهون من تجهيزه.
(14) حديث صحيح، أخرجه البخاري (1269)، ومسلم (2400) باختلاف يسير.
(15) إحدى الأسنان الأربع التي في مقدَّم الفم، وهما ثنيتان فوق، وثنيتان تحت.
(16) حَـزِنَ.
(17) اشتد لهيب الحرب.
(18) أحاطته به.
(19) الإصابة (4802)، الاستيعاب (1608)، أسد الغابة (3039)، سير أعلام النبلاء (1/ 322).