ارتبط شهر رمضان المبارك في ذاكرة الأمة الإسلامية بمجاهدة النفس وجهاد العدو وطلبه وتحقيق الانتصارات، فهو شهر فتح الثغور والأمصار لنشر مبادئ الإسلام، وشهر الجد والاجتهاد في التبتل في محاريب العبادة، والإقبال على تلاوة القرآن الكريم وحفظه، وبذل الزكوات والصدقات للفقراء والمحتاجين والجود بالخيرات، ولقد فهم السلف رضوان الله عليهم أن رمضان عبادة وريادة، وهمة ونشاط، فحري بالأمة أن تجدد فيه دينها وتستلهم منه نفحات التغيير، وتستذكر فيه جهاد الفاتحين، وتقتبس من أيامه نفحات الصالحين وتقتدي بمنهاج السابقين في احتساب الصوم والقيام والعبادة وكل وجوه الخير، والإقبال على رب العالمين.
وفي هذه السطور، نجدد معالم هذا الفهم الصحيح لما يمثله شهر رمضان لهذه الأمة من قيم ومفاهيم إسلامية عظيمة:
وحول كيفية الاستفادة من شهر رمضان في إحياء الأمة لكي تسترد قوتها ودورها الحضاري أوضح الداعية المصري عبدالرحمن لطفي أن شهر رمضان هو شهر القرآن، ولكي تستعيد أمتنا دورها الحضاري عالمياً فلا بد أن يفهم المسلمون أن سبب تخلفهم وضعفهم وهوانهم هو أنهم تخلوا عن إقامة الدين، وتفرقوا شيعاً وأحزاباً، وأصبح كل حزب بما لديهم فرحون، ونسوا أمر الله لهم في القرآن الكريم بأن يعتصموا بحبل الله جميعاً غير متفرقين.
وأضاف أن تحقيق هذه الوحدة مع العودة لكتاب الله تعالى وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم هي الخطوة الأولى في استعادة المسلمين لقوتهم ودورهم الحضاري، وأن نستلهم التاريخ وما حققه المسلمون من انتصارات في شهر رمضان شهر مجاهدة النفس ومجاهدة أعداء الأمة، ومنها معركة «بدر الكبرى»، و «فتح مكة»، وفتح الأندلس، والانتصار على التتار في «عين جالوت»، وعلى الصهاينة في العاشر من رمضان 1393هـ.
فرصة للتغيير
ويؤكد أ.د. مولاي عمر بنحماد، الداعية المغربي؛ أن رمضان مدرسة وفرصة الإنسان المسلم للتغيير، ولاستعادة المبادرة، وهي بعض عناوين حملات دعوية رمضانية يسعى القائمون عليها إلى تذكير الصائمين بأدوار رمضان ومقاصده.
ويبرز بنحماد في تصريح خاص لـ «المجتمع» أنه قد أتى على الأمة زمان وقع التركيز فيه على جوانب الأحكام، ووقع التقصير أو الغفلة عن مقاصد العبادات، إن لم نقل: مقاصد الشريعة الإسلامية عموماً، وإن كل جهد يبذل لإعادة الاعتبار للمقاصد سيكون هو المدخل لنرى ثمار الشعائر على مستوى السلوك الفردي والجماعي.
وبالنسبة لرمضان – يشدد بنحماد، الأستاذ الجامعي – فإن المدخل هو التذكير بهذا النداء الإيماني: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {183}) (البقرة)؛ لأن اشتراك الأمة في مشارق الأرض ومغاربها في هذه الطاعة لهو أعظم حافز لتذكيرها بوحدتها، وهذا الأمر لا ينبغي أن يشوش عليه الاختلاف الذي يقع في بداية الشهر ونهايته، إن الاختلاف في يومين لا ينبغي أن يحجب عنا وحدة أمة في ثمانية وعشرين يوماً الباقية.
ويضيف أن هذا الشعور بالوحدة إنما يتحقق مع الصيام والصلاة أكثر مما يتحقق مع ركني الزكاة والحج، فالحج لمن استطاع إليه سبيلاً، والزكاة لمن ملك نصاباً تجب عليه فيه، ومعاني وحدة الأمة من أعظم ما يساعد عليها رمضان والصيام.
ويشير المتحدث ذاته إلى أنه إذا كانت لذة الانتماء للأمة الإسلامية من ثمار رمضان، فإنه على المستوى الفردي فرصة لاستعادة المبادرة وحشد العزيمة؛ ذلك لأن المسلم الذي يترك المباح من المأكل والمشرب وغيرهما طاعة لله هو على ترك ما لا يجوز أقدر، أو هكذا ينبغي أن يكون.
ويقول بنحماد: إن اشتراك المسلمين في هذه الطاعة التي خصها الله تعالى بما خصها به من الفضل كما في الحديث: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به»، لا ينبغي أن يحجب عنا بعض جوانب النقص التي وجب أن تتجه جهود الدعاة إلى استدراكها، وفي مقدمتها مظاهر الإسراف في النفقة في شهر رمضان، ذلك أن الشهر الذي هو في أصله للانتصار على الشهوات قد تحول مع الزمن وفي كثير من الأوساط إلى شهر الإنفاق الزائد عن الحاجة، وقد مدح الله تعالى عباد الرحمن بقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً {67}) (الفرقان)، وإلى هذه الوسطية ندعو دون تقتير ولا إسراف.
ومن مظاهر الخلل التي تنتشر في رمضان هدر الوقت، وتضييعه بما يجعل نهار رمضان وليله مختطفاً، ويصير الصائم مغبوناً فيهما كما في الحديث: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس؛ الصحة والفراغ»، وأعظم الغبن ما يكون في الأيام المباركة.
ويستدرك أن هذا لا ينبغي أن يحجب عنا الجوانب المضيئة الكثيرة في رمضان؛ وعلى رأسها محافظة المسلمين على شعيرة الصيام وتعظيمهم لها، وإن فاتهم شيء من مقاصدها وأبعادها، ومن الجوانب المضيئة ما نشاهده من الإقبال على بيوت الله وعمارة لها، وحرص على صلاة التراويح والقيام، ومن ذلك أيضاً العناية بالقرآن الكريم تلاوة وترتيلاً وتجويداً وتدبراً، وما ينظم من أجل ذلك من المسابقات المحلية والدولية.
ومن الجوانب المشرقة ما نشاهده من تنافس في توفير وجبة الإفطار، وفي تقديم المساعدات للمحتاجين بما صار يعرف بـ «قفة» رمضان، وفي الحديث: «من فطَّر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً».
رمضان انطلاقة إلى المعالي
وقال الشيخ جمال يمن، من شيوخ الشمال الغربي لتونس، ورئيس جمعية أئمة المساجد في بنزرت لـ «المجتمع»: القرآن نزل في رمضان، وعلينا تنزيله في واقعنا وحياتنا وحياة الناس، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فلنا في رسول الله أسوة حسنة، وليكن رمضان انطلاقة جديدة، ومحطة إقلاع إلى المعالي الروحية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها، وتابع: لنقوِّ صلتنا بالله في رمضان، ونقرأ القرآن، الذي يذكرنا دائماً بأن المؤمنين إخوة، وللأخوة حقوقها، كما لصلة الرحم حقها، وأردف: رمضان قوة روحية نستمد منها المدد لبقية شهور وأيام السنة، ونتزود منها لمعاركنا في دحض الشبهات ورد الأراجيف، ونبذ الخلافات، وإفساح المجال للمساجد ومختلف المنابر الإعلامية والسياسية لأداء دورها في محاربة الجريمة والتسيب والظلم والتجبر والإرهاب.
المعاني التربوية في رمضان
تزخر نصوص الشريعة قرآناً وسُنة بتعليل الأحكام وبيان إناطتها بمصلحة الفرد والأمة؛ (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {185}) (البقرة)، (مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {6}) (المائدة)، وقد روي عن كل من ابن عباس، وابن مسعود مقالة: «إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا؛ فأصغ إليها، فإما خير يسوقه إليك، أو شر يصرفه عنك».
وتأكيداً لهذا المعني يقول محمد ولد الرباني، وهو أستاذ بمركز تكوين العلماء بموريتانيا: إن الصوم يشتمل على المعاني التالية:
أولاً: تعويد المسلم الصبر عن المعاصي وعلى الطاعات، فالذي يضبط نفسه ويحبسها طيلة اليوم عما يعد في الأصل من المباحات والتفكهات الاعتيادية في الممارسة اليومية؛ يستطيع بذات الطريقة أن يضبط تلك النفس ويحبسها عما حرم الخالق جل جلاله أو على ما أوجب عليها؛ لأن التعود يصير عادة، والتطبع يصير طبعاً، وفي الصحيح ما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً.
ثانياً: تعويد الإنسان على المشقة، والحد من مظاهر الترف المرتبط غالباً بالطغيان والإفساد؛ (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً {16}) (الإسراء).
ثالثاً: تذكر نعمة الله عز وجل، فحين يجوع الإنسان أو يعطش أو يجد شبقاً لا يستطيع إطفاءه؛ سيشعر بما كان يتمتع به في عموم السنة من إباحة تلك الطيبات ووفرتها وهو غافل عن شكرها.
رابعاً: مواساة الفقراء والمحرومين؛ كما يكون الصوم عامل تذكر نعم الله على الغافل، فإنه يكون كذلك تذكرة بأحوال الفقراء والمحرومين الذي يعيشون ظروفاً كظروف الصوم في سائر السنة، فتتحرك العاطفة الإنسانية تحدوها الأوامر الإلهية في القرآن والسُّنة حاثة على الإنفاق كقوله تعالى: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {261} الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {262} قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ {263}) (البقرة)، وكحديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً» (أخرجه الترمذي، وصححه).
خامساً: أنه موسم الخصوبة الإيمانية والنفحات الإلهية؛ «إذا دخل رمضان فُتحت أبواب الجنة، وغُلقت أبواب جهنم، وسُلسِلت الشياطين» (متَّفق عليه)، وله طرق وألفاظ أخر، منها ما رواه ابن ماجه والحاكم والبيهقي وابن حبان عن أبي هريرة: «إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النيران فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ كل ليلة يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة»، وصح في الحديث المتفق عليه أنه «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه».
وأن الله سبحانه يقول فيما يرويه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، وإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه» (متفق عليه)، وصح أيضاً أن «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه» (في حديث متفق عليه).