يوم الجمعة الفائت، وفي الجلسة الرابعة لمحاكمته، أصدرت محكمة تركية قرارها النهائي بخصوص القس الأمريكي أندرو برونسون؛ المتهم بالتجسس لصالح حزب العمال الكردستاني ومنظمة غولن، وكلاهما مصنفان كمنظمتين إرهابيتين وفق القوانين التركية. أدانت المحكمة برونسون، الموقوف في تركيا منذ 2016، بتهمة “مساندة منظمات إرهابية” وحكمت عليه بالسجن ثلاث سنوات وشهراً و15 يوماً، لكنها أطلقت سراحه بعد الأخذ بعين الاعتبار الفترة التي قضاها في السجن، كما ألغت حظر السفر عنه، ليتجه مباشرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
وكان قضية القس ذريعة للتوتر بين تركيا والولايات المتحدة؛ إثر العقوبات التي فرضتها الثانية على الأولى، مع مطالبات بالإفراج الفوري عنه بداية أغسطس الماضي، ما طرح علامات استفهام حول تداخل الحسابات السياسية مع المسار القضائي، خصوصاً وأن هناك سابقة بإطلاق السلطات التركية سراح الصحفي الألماني – من أصل تركي – دنيز يوجال في فبراير الفائت، بعد مطالبات ألمانية وخلال زيارة رئيس الوزراء التركي السابق بن علي يلدرم إلى برلين.
في الحقيقة، فإن الأبعاد السياسية للقضية أكبر من أن يمكن تجاهلها. فتهمة الرجل في المقام الأول ليست جنائية اعتيادية، وإنما تتعلق بالتجسس ودعم المنظمات الإرهابية، كما أن الإدارة الأمريكية قد سيّستها إلى أبعد الحدود. فقد طلبت من الحكومة التركية التدخل لإطلاق سراح القس، وجعلت قضيته عنواناً لتوتر سياسي مع أنقرة وعقوبات اقتصادية عليها. كما أن كل ذلك أتى بعد حوالي سنتين من توقيفه وبدء محاكمته، وليس في البدايات، بل وبعد تحسن إيجابي في وضعه تمثل في قرار المحكمة نقله من السجن للإقامة الجبرية في تموز/ يوليو الفائت، مع اقتراب موعد الانتخابات النصفية للكونغرس، وهي اعتبارات أقرب للسياسية منها للحقوقية.
في الطرف التركي من المعادلة، حرصت أنقرة منذ البداية على نفي الاعتبارات السياسية للقضية؛ قائلة إن “القرار الأول والأخير للقضاء التركي المستقل”، ولذا فقد رفضت التجاوب مع المطالب الأمريكية في أغسطس الفائت، ودعت واشنطن لترك خطاب الإملاءات والضغوط، وبدء حوار مباشر ومتكافئ معها.
بعد إطلاق سراح القس في جلسة محاكمته الاعتيادية، أكدت أنقرة على لسان الرئيس أردوغان والناطق باسم حزب العدالة والتنمية عمر تشيليك ومسؤولين آخرين؛ أن القرار كان قضائياً محضاً، وأن القيادة السياسية لم تتدخل به، بدليل أن المحكمة لم تبرئ القس، وإنما أدانته بالفعل وحكمت عليه بالسجن (خمس سنوات أولاً، ثم خُفـِّفت بالنظر لـ”حسن سلوكه خلال المحاكمة”)، لدرجة أن أردوغان رد على شكر ترمب له على تويتر “لمساعدته في إطلاق سراح القس” بقوله: “كما أكدت مراراً، اتخذ القضاء التركي قراره بشكل مستقل”.
لكن العديد من المؤشرات والقرائن الأخرى تحيل إلى أبعاد سياسية في قضية القس الأمريكي. فصحيفة “ديلي صباح” التركية الناطقة بالإنكليزية؛ كانت قد تحدثت عن مفاوضات بين أنقرة وواشنطن قبيل إخراج القس من السجن للإقامة الجبرية، تشمل قضيته وقضية مصرف “خلق” ومسؤوله السابق محمد حاقان أتيلا، المسجون في الولايات المتحدة. كما أن الحكم على القس بثلاث سنوات بعد أن كان طلب الادعاء 35 سنة، وإطلاق سراحه بعد الضغوط الأمريكية، وقبيل شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الذي ينتظر أن يشهد انتخابات الكونغرس وعقوبات أمريكية إضافية على طهران.. كلها سياقات تحيل إلى محاولة أنقرة تجنب المزيد من التوتر مع واشنطن.
تغيير مكان عمل المدعي العام المسؤول عن قضية القس (مع خمسة آخرين) بداية سبتمبر الفائت، وتبديل بعض شهود القضية إفاداتهم في الجلسة الرابعة والأخيرة للمحاكمة، والحكم على الرجل بالسجن فترة متناسبة نوعاً ما مع الفترة التي قضاها حتى الآن في السجن (وهو ما أدى لإطلاق سراحه) كانت من المؤشرات التي دفعت بالكثيرين لاعتبار ما حصل صفقة سياسية بين تركيا والولايات المتحدة أكثر من كونها مساراً قضائياً مستقلاً.
ثمة سياق آخر (أراه وجيهاً جداً) للأبعاد السياسية لقضية برونسون، وهي فكرة أن إطالة أمد التحقيق معه ومحاكمته كانت محاولة للضغط على واشنطن لمبادلته بـ”أتيللا”، أو حتى فتح الله غولن، حيث سبق للرئيس التركي أن قال للولايات المتحدة: “سلمونا القس الذي لنا عندكم، نسلمكم القس الذي لكم لدينا”، قاصداً غولن. وبالتالي فيمكن المحاججة بأن القرار الأخير الذي أصدرته المحكمة صحيح وفق اعتبارات المحاكمة، وأنه أتى متأخراً بسبب اعتبارات سياسية سابقة لم تعد قائمة مؤخراً.
ردة الفعل على إطلاق سراح القس برونسون لم تأت هذه المرة من المعارضة، وإنما من رئيس حزب الحركة القومية (حليف العدالة والتنمية) دولت بهشتلي؛ الذي قال في بيان مكتوب إنه يحترم قرار القضاء التركي، ولكن “قرار إطلاق سراح القس برونسون أزعج الضمير الوطني، فالشهود السرّيّون الذين بدلوا إفاداتهم وتغيير المدعي العام للقضية؛ قوَّتْ علامات الاستفهام وضاعفت الشكوك”، معتبراً أن إطلاق سراح شخص متهم بدعم المنظمات الإرهابية “إثر ضغط وابتزاز سياسي، أمر مؤسف ويدعو للتأمل”. ورأى بهشتلي أن القرار يضع مسؤوليات على الرئيس الأمريكي ويتركه أمام أحد خيارين، فإما أن يسلم غولن لتركيا أو أحد كبار المسؤولين في منظمته، أو أن يعيد لها محمد حاقان أتيللا.
الحلقة الأخيرة في الأبعاد السياسية للقرار تتعلق بمردوده على تركيا و”الثمن” الذي يفترض أن تكسبه من القرار، لا سيما وأن ترمب صرح لدى استقباله برونسون بأنه “سيقود لعلاقات جيدة وربما رائعة بين تركيا والولايات المتحدة”.
سيكون من غير المفاجئ أن تفرج واشنطن عن المصرفي التركي أتيللا، ما يتناغم مع فكرة التفاوض السابقة بين الطرفين، وبما يضع إطلاق سراح القس برونسون في سياق “عملية تبادل” بين البلدين، وهو أمر متعارف عليه، وإن حصل هذه المرة عن طريق حكم قضائي. كما أن تسريع الولايات المتحدة لخطوات اتفاقية منبج مع تركيا، والتي ماطلت فيها وبطأتها كثيراً على مدى الأسابيع الماضية، قد يكون أحد نتائج القرار التركي.
بيد أنه من الضروري الإشارة إلى أن الملفات الخلافية الرئيسة بين البلدين، مثل الدعم الأمريكي للفصائل الكردية في سوريا وملف غولن وصفقة “إس 400” وسواها، ليس من المتوقع أن تتأثر إيجاباً (على الأقل على المدى القريب) بقرار برونسون، وإنما قد تساعد الانفراجة النسبية بين البلدين على إطلاقهما حواراً أكثر جدية بخصوصها.
ختاماً، فقد اتخذ قرار إطلاق سراح القس الأمريكي أندرو برونسون عبر القضاء، ولكنه صدر بالتأكيد بنكهة سياسية، بحيث تداخل في قضيته السياسي مع القضائي. فإدانة المحكمة للرجل وحكمها عليه بالسجن (وليس تبرئته) في الجلسة الاعتيادية من جهة، والتفاصيل سابقة الذكر المتعلقة بسياق المحاكمة وتفاصيلها الفنية من جهة أخرى، حفظت للقضاء مكانته وللقضية حيثيتها، لكنها أيضاً فتحت باب الأسئلة على مدى استقلالية القضاء في قضية كهذه؛ كان السياسي فيها حاضراً في نهاية المطاف أكثر من القضائي.
—–
* المصدر: عربي 21.