مات العلاَّمة الشيخ يوسف القرضاوي، لكن علمه سيظل يملأ طباق الأرض، وكلما مر الزمن سيزداد علمه انتشارًا وامتدادًا بين الأجيال، مثله مثل الرئيس الشهيد محمد مرسي ستظل تجربته مثالًا حيًا تتعلم منه الأجيال على مر الزمان، ومثل أستاذه الإمام البنا الذي ما زال ذكره يملأ الآفاق وما زالت مدرسته الجامعة تخرج الأجيال جيلاً بعد جيل.
أتحدث عن ظاهرة العلماء المصلحين والقادة المجاهدين من كل فئات الأمة على طريق العمل الدؤوب لنشر الإسلام، ولكني اخترت هؤلاء كنموذج ومثال.
أتأمل صدى وفاة ووداع العلاَّمة الشيخ يوسف القرضاوي بين العالمين فأجدها شبه متطابقة مع أصداء استشهاد الإمام حسن البنا، وبالذات لدى أعداء الإسلام والحانقين على علمائه الربانيين المجاهدين.
فبالأمس البعيد وبمجرد تطاير الخبر بارتقاء الإمام البنا شهيدًا عام 1949 دقت أجراس الكنائس في أمريكا وتبادل المحتفلون الأنخاب احتفاء بالحدث، ونقل شهود عيان أن الشهيد سيد قطب (9 أكتوبر 1906 – 29 أغسطس 1966) وكان يومها في بعثة رسمية بالولايات المتحدة تأثر بفرحة الأمريكيين باغتيال البنا (أكتوبر 1906 – 12 فبراير 1949) فكان ذلك سببًا في انتمائه للجماعة.
نفس الأجواء سادت الكيان الصهيوني وتجمع الحانقون على الإسلام وقادته وعلمائه بعد إعلان وفاة العلاَّمة الشيخ القرضاوي يوم 26 سبتمبر 2022، حيث دوى نعيق الصهاينة والمتصهينين العرب فرحًا وصبوا عليه –يرحمه الله تعالى- افتراءات إعلامهم، وسادت أجواء الشماتة المفعمة بالهبوط الأخلاقي هذا المشهد المؤسف.
وهي هي نفس الفرحة التي عمت الصهاينة وأزلامهم بوفاة الرئيس محمد مرسي (8 أغسطس 1951 – 17 يونيو 2019)، أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر الحديث.
فقد وصف الإعلام الصهيوني العلامة القرضاوي يرحمه الله بأنه من كبار المحرضين على “إسرائيل”، وقال روعي كايس، رئيس قسم الشؤون العربية في قناة “كان” الرسمية العبرية، بأنه “الزعيم الروحي للإخوان المسلمين”، الذي شرعن العمليات الاستشهادية ضد “الإسرائيليين”.
وأصدر “مركز المعلومات الاستخبارية حول الإرهاب”، وهو من أهم المراكز البحثية الصهيونية حول الإرهاب، تقريراً مطولاً حول دور العلاَّمة القرضاوي في تأجيج العمل المقاوم ضد الكيان الصهيوني، معتبراً وفاته مكسباً للكيان وخسارة للمقاومة.
وفي بلادنا لم يستح القوم من بني ديننا وجلدتنا ممن يسمون علماء! وهم يزيدون سبًا لعلاَّمة الأمة ويتألهون على الله!
ولقد رد د. يوسف القرضاوي، يرحمه الله، على كل هؤلاء في آخر ما خطته يمينه تقديمًا لأعماله الكاملة التي ستصدر قريبًا إن شاء الله قائلًا: “وأما من جهتي، فأسامحكم في كلِّ ما أسأتم فيه إلى شخصي، وقد تصدقت به عليكم، ولا أؤاخذكم به، فأنتم أحبتي وأهلي وأبنائي وإخواني، وأنتم أولى بي، وأنا أولى بكم.. غفر الله لكم، وهو الغفور الرحيم”.
وهي نفس أجواء العداء التي صنعها الصهاينة والمتصهينون في بلادنا ضد الرئيس الشهيد محمد مرسي منذ انتخابه عام 2012 حتى استشهاده عام 2019، فقد وثقت الصحافة الصهيونية منذ اليوم الأول لتوليه الحكم الدعوات الصريحة لإفشاله والعمل على إسقاطه؛ لأن ذلك يسرع في وقف ما أسماه الإعلام سيناريو الرعب الذي بشر به “الربيع العربي”، وبالطبع فقد تعدى ذلك العداء إلى العداء لجماعة الإخوان المسلمين التي يعد مرسي أحد قادتها، فقد نشرت صحيفة “معاريف” خلاصة تقرير أصدره معهد “فيزنتال”، وهو من أهم مراكز الأبحاث اليهودية في العالم، الذي يعد د. محمد بديع، مرشد جماعة الإخوان المسلمين، أكثر شخص حرض على اليهود في العالم، معتبرة إياه أخطر شخص على اليهود في العالم.
وكان بن جوريون أكثر وضوحًا في تعقيبه على اشتراك مجاهدي الإخوان في معارك 1948 ضد العصابات الصهيونية حينما قال: “لا سبيل إلى استقرار “إسرائيل” إلا بالقضاء على الرجعيين في العالم العربي والمتعصبين من رجال الدين والإخوان المسلمين”، وهو نفس ما عبرت عنه تلك الفتاة الصهيونية روث كاريف على صفحات صحيفة “الصنداي ميرور”، في مطلع عام 1947، ونقلته جريدة “المصري” سنة 1948م تعليقاً على مشاركة الإخوان المسلمين في حرب فلسطين قائلة: “وإذا لم يدرك العالم هذه الحقيقة (أي حقيقة خطر الإخوان المسلمين على الاستعمار عمومًا والصهيونية خصوصًا) فإن أوروبا قد تواجهها في العقد الحالي إمبراطورية إسلامية فاشية تمتد من شمال أفريقيا إلى باكستان ومن تركيا إلى المحيط الهندي.
وكان الكيان الصهيوني وأزلامه الأكثر فرحًا بوفاة الرئيس مرسي وبصورة مماثلة للفرح بوفاة الشيخ القرضاوي وباستشهاد الإمام البنا، ويكفي أن القناة “11” من التلفزيون الصهيوني هي وسيلة الإعلام الوحيدة التي سمح الانقلاب العسكري في مصر لضابط المخابرات الصهيوني السابق روعي كييس بدخول المقبرة وبث تقريراً متكاملاً، ينطوي –وفق الكاتب الفلسطيني صالح النعامي- على الكثير من الشماتة والتشفي بالشهيد وإبراز الحدث على أنه إنجاز صهيوني، بينما كانت قوات الأمن تحاصر المقبرة ولم تسمح باقتراب أحد منها.
وقد أثارت تلك المواقف الحافلة بالفرح والشماتة حزنًا في النفس، لكن خففت منه كلمات فضيلة الشيخ محمد الغزالي يرحمه الله التي وقعت عيني عليها في كتابه القيم “الحق المر” الذي قال فيه: “أحياناً أقف أمام مصارع الصالحين لأطيل التفكير! أفكر في حقارة الدنيا التي غادرها هؤلاء الرجال على نحو مزعج، وأسلوب خشن غليظ، وأقول: لو كان لها عند الله مقدار، ما هان فيها أولياؤه، وسفكت دماؤهم بهذه الطريقة الهمجية! أو أقول: ما أشدّ ظهور الحقّ لدى بعض الناس، وخفاءه عند آخرين! ونحن نعلم أنّ اليوم الذي يقتل فيه شهيد هو يوم ميلاده في ساحة الخلد، وانتقاله إلى جنة النعيم! ومع ذلك فإن سخطنا لا يخف عن المجرمين، الذين سفكوا دمه، وأباحوا حرمته، ولي أصحاب رفع الله قدرهم، فاستشهدوا وسبقوا سبقاً بعيداً، ولي أساتذة قضوا سحابة عمرهم مجاهدين، ثمّ توج جهادهم بتمزيق أجسادهم في سبيل الله.
إنّهم الآن سعداء بما قدّموا، وقد أقرأ لهم الآن، أو أقرأ عنهم، ثمّ أغوص في لجج عميقة من الفكر: ما أغلى حياة الشهداء! وما أغبى الذين ظلموهم، إلى كل الشهداء: ما أسعدكم اليوم وأتعس قاتليكم!”، انتهي كلام الغزالي.
المسألة إذاً ليست الفرح بموت عالم هنا وشماته آخرين هنا، فالشماتة والفرح في هذه الحالات تنطلق من منبع واحد هو الكيان الصهيوني الذي يوزعها علي عملائه لينظموا حملاتهم السوداء، وفي التحليل الأخير يصب كل ذلك في مشروع الحرب على الإسلام، ولكنها لن تنجح بإذن الله.
وإن الرباط الإيماني المتين الذي يجمع الأعلام والمجاهدين والعلماء العاملين في حياتهم ومماتهم على طريق العمل والكفاح من أجل الإسلام الحنيف لا يعدله رباط ولا تقطعه قوة مهما بلغت.
تلك قصة الإسلام مع أعدائه منذ نزل إلى الأرض وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يجسدها الخطيب الإدريسي قائلًا: ”إن الإسلام إذا حاربوه اشتد، وإذا تركوه امتد، والله بالمرصاد لمن يصدّ، وهو غنيٌّ عمن يرتد، وبأسه عن المجرمين لا يرد، وإن كان العدوّ قد أعدّ؛ فإن الله لا يعجزه أحد، فجدّد الإيمان جدّد، ووحّد الله وحّد، وسدّد الصفوف سدّد”.
_________________________________
(*) مدير تحرير مجلة “المجتمع” الكويتية، وجريد “الشعب” المصرية، سابقاً.