تُظلنا هذا العام ذكرى مولد النبي محمد ﷺ وقد اقتربنا من مرور عام على معركة طوفان الأقصى، تلك المعركة التي غيرت العالم، وأوقفته على قدم واحدة، وأظهرت كثيرا من الحقائق، وأكدت على كثير من المعاني، وأبرزت العالم فسطاطين كبيرين واضحين ظاهرين: فسطاط الإسلام، وفسطاط الكفر.
ولعل القارئ يتساءل – وحُقَّ له السؤال -: ما علاقة المولد النبي الشريف الذي مر عليه ألف وخمسمائة عام إلا عامًا واحدًا بمعركة طوفان الأقصى التي تجري أحداثها اليوم؛ فعلى رُغم هذا البُعد الزمني هل توجد علاقة، وما هي هذه العلاقة؟
نقول وبالله التوفيق: نعم هناك علاقة واضحة تتجسد في أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف يكون بتدارس سيرته، والتأمل في أقواله وأفعاله، والاهتداء بهديه، واستجلاء معالم العظمة في شخصيته، والائتساء بسنته، مما يُعدَ استجابة لقول الله تعالى: ﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِی رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةࣱ لِّمَن كَانَ یَرۡجُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلۡیَوۡمَ ٱلۡـَٔاخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِیرࣰا﴾ [الأحزاب ٢١].
ميلاد النبي نقلة عظيمة وتغيير جذري
لقد كان ميلاد النبي ﷺ إيذانًا ببداية عهد جديد يودع الناس فيه عقيدة ضالة، وعاداتٍ سيئةً، وأخلاقا مرذولة، وأحوالا غير إنسانية ولا معقولة، إلى آفاق سَنية، ومدارج علية، وعقيدة صافية، وشريعة رافعة، وأخلاق ضافية، وحضارة دافعة، وأحوال عظيمة جليلة مانعة.
جسَّد هذه الحالَ الجديدةَ ما جاء على لسان الصحابي الجليل ربعي بن عامر حين قابل “رستم” – قائد الفرس – وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة، والزينة العظيمة، وعليه تاجه، وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضة على رأسه، فقالوا له : ضع سلاحك . فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فقال رستم: ائذنوا له. فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها، فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله. قالوا: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي”([1]).
وكذلك يُجَلّي طبيعة هذه الرسالةَ ما جاء على لسان جعفر بن أبي طالب وهو في مواجهة عمرو بن العاص وابن ربيعة أمام النجاشي؛ حيث أخرج الإمام الذهبي عن الإمام أحمد بسنده عن أم سلمة أن جعفرا قال له: “أيها الملك، إنا كنا قوما أهل جاهلية: نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.
قالت : فعدد له أمور الإسلام – فصدقناه وآمنا به واتبعناه، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل ما كنا [ ص: 433 ] نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
قالت: فقال: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قال: نعم. قال: فاقرأه علي، فقرأ عليه صدرا من (كهيعص) فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم، ثم قال النجاشي : إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبدا ولا أكاد”([2]).
كل هذه الأوضاع التي كان عليها العرب، والأوضاع التي صاروا إليها هي ثمرة ميلاد النبي ﷺ وبعثته الشريفة؛ ولهذا فإن ما حدث من تغيير بميلاد النبي وبعصته، هو تغيير جذري، تحتاجه الأمة اليوم بعد هذه القرون من الزمان.
ميلاد النبي ﷺ وصلته بطوفان الأقصى
إن هذا الميلاد الذي تغيرت به الدنيا، وظهرت به ظواهر، وحصلت به معجزات، سواء في حمله أم عند ميلاده أم بميلاده، ثم بعثته التي كانت إيذانًا بالتغيير الجذري، وسعيًا لتحرير البشرية من أوهاق ما سوى الله، وتعزيزًا لكرامة الإنسان، ورفعًا لعلم الجهاد في سبيل الله، والشعور بالعزة والمنعة .. هذه المعاني كلها وغيرها نحن أحوج ما نكون إليها في ظل معركة طوفان الأقصى، تلك المعركة التي أحيت روح الجهاد في الأمة، وأشعرت الشعوب المسلمة بالعزة والكرامة، وأعادت لنا مشاهد ما كنا نقرؤه عن الصحابة في مواقع الجهاد ومعارك الكفر والإيمان، بما تجلى في هذه المعركة من تمايز وتزايل، وتمييز بين معسكر الكفر ومعسكر الإيمان.
إن المعاني التي أثمرتها معركةُ طوفان الأقصى هي نفسها بعض المعاني التي بشر بها ميلاد الحبيب المصطفى ﷺ، بل إن ما نراه ونسمعه ونتابعه على الشاشات، والأخبار التي نشاهدها لتعيد إلينا ما كنا نقرؤه عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهو ما يؤكد ما قاله الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى عن الجيل الأول وإمكانية تكراره، أو تكرار نماذج منه على الأقل، قال: “لقد استطاعت تلك الفترة أن تنشيء في واقع الحياة البشرية عدداً كبيراً من الشخصيات النموذجية، تتمثل فيها الإنسانية العليا، بصورة غير مسبوقة ولا ملحوقة، صورة تبدو في ظلها جميع الشخصيات البشرية التي نشأت في غير هذا المنهج، أقزاماً صغيرة، أو كائنات لم تستكمل وجودها بعد، أو كائنات غير متناسقة على كل حال!. …. ولقد انبثق ذلك الجيل الفارع العظيم، من قلب الصحراء، الفقيرة الموارد، المحدودة المقدرات الطبيعية والاقتصادية والعلمية … وعلى كل ما كان في هذه البيئة من الموافقات المكونة لهذا الانبثاق الهائل العجيب، فان البشرية – اليوم وغداً – ليست عاجزة بفطرتها، ولا عاجزة بمقدراتها، أن تنجح مرة أخرى في المحاولة، إذا هي اتخذت ذلك المنهج قاعدة لحياتها.
ولقد ظل هذا المنهج – على كل ما ألم به على مدى الزمن من انحرافات ومن خصومات ومن هجمات – يبعث بنماذج من الرجال، فيها من ذلك الجيل الأول الفارع مُشابَه، وفيها منه آثاراً وانطباعات … وظلت هذه النماذج تؤثر في الحياة البشرية تأثيرات قوية، وتؤثر في خط سير التاريخ البشري، وتترك من حولها ومن ورائها تيارات ودوامات هائلة تطبع وجه الحياة، وتلون سماتها.
وما يزال هذا المنهج قادراً في كل حين، على أن يبعث بهذه النماذج، كلما بذلت محاولة جدية في تطبيقه وتحكيمه في الحياة. على الرغم من جميع المؤثرات المضادة، وعلى الرغم من جميع المعوقات من حوله وفي طريقه .. والسر الكامن فيه هو تعامله المباشر مع الفطرة؛ واستمداده المباشر من رصيدها المكنون. وهو رصيد هائل، ورصيد دائم، وحيثما التقى مع هذا المنهج تفجرت ينابيعه الثرة، وفاض فيضه المكنون!” ([3]).
واجبات نحو طوفان الأقصى يفرضها المولد النبوي الشريف
إن أهم ملمح في العلاقة بين الميلاد النبوي وبين طوفان الأقصى هو الواجبات التي يفرضها هذا الميلادُ الشريف نحو طوفان الأقصى، وهي واجبات مستقاة من السنة النبوية، ومأخوذة من الهدي النبوي.
وأول هذه الواجبات هو المشاركة الفاعلة لرجال الطوفان، المشاركة الفاعلة الحقيقية، والمشاركة هنا يجمعها نوعان كبيران ينضوي تحت كل منهما الكثير والكثير، ولهما عشرات النصوص الشرعية التي تشهد لها من القرآن الكريم والسنة النبوية، وهما:
المشاركة المادية، وتعني كل ما يتعلق بالإسناد المادي والدعم العسكري، والمشاركة الحقة على أرض المعركة؛ وهذا واجب تقوم به الجيوش أصالةً، ومن يستطيع من الشعوب بعد ذلك، وهو ما لم تقم به الأمة ولا عشر معشاره حتى الآن، وكذلك المشاركة بالمال في تجهيز المجاهدين بالمال والعتاد، وإخلاف المجاهدين في أهليهم بخير، وكفالة الثكلى وأهالي الشهداء، والمرضى والجرحى، وإعادة الإعمار.
والمشاركة المعنوية، ويأتي على رأسها بثُّ الوعي بالقضية، ونشر ما يجري على الأرض هناك، وهو دور الإعلام الشريف، أو الذي يجب أن يكون شريفا؛ فيقوم بواجبه المقرر، وهو نقل الحقائق كما هي في الواقع دون تهوين أو تهويل، وكذلك بالكتابة والمشاركات في المحافل والندوات والمؤتمرات، والصحف والبوبات، وكذلك بالدعاء لهم، ذلك الدعاء الذي له ما له .. فهذه كلها مشاركات معنوية تحيي الأمة، وتنعكس إيجابا على المجاهدين في أرض المعركة.
***
إذن نحن أمام علاقة لا تنفصم ولا تنفصل بين ميلاد النبي ﷺ وطوفان الأقصى، من خلال استحضار التغييرات الكبرى الجذرية التي حدثت مع ميلاده ومع بعثته الشريفة التي تتشابه مع ما تمر به الأمة الآن، ومن خلال استدعاء الواجبات التي فرضتها السنة النبوية للمسلمين بعضهم على بعض، لا سيما واجبات أرض فلسطين، والمجاهدين على أرض فلسطين، تلك الطائفة التي لا يضرها من خذلها حتى يأتي أمر الله وهم كذلك.
_________________________________
([1]) البداية والنهاية لابن كثير: 9/ 622. دار عالم الكتب. 1424هـ / 2003م.
([2]) سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي: 1/ 432-433. مؤسسة الرسالة. 1422هـ / 2001م.
([3]) هذا الدين لسيد قطب: 42، 44، دار الشروق، الطبعة الخامسة عشرة، 1422هـ/ 2001م.